لطائف الإشارات، ج ٣، ص : ٥٥٧
العهد، وبايعوا أبا سفيان وأهل مكة، فأخبر اللّه تعالى رسوله بذلك، فبعث صلوات اللّه عليه إليهم محمد بن مسلمة، فأوهم أنه يشكو من الرسول في أخذ الصّدقة. وكان رئيسهم كعب ابن الأشرف فقتله محمد بن مسلمة (غيلة)، وغزاهم «١» رسول اللّه (ص) وأجلاهم عن حصونهم المنيعة وأخرجهم إلى الشام، وما كان المسلمون يتوقّعون الظّفر عليهم لكثرتهم، ولمنعة حصونهم.
وظلّوا يهدمون دورهم بأيديهم ينقبون ليخرجوا، ويقطعون أشجارهم ليسدوا النقب، فسمّوا أول الحشر، لأنهم أول من أخرج من جزيرة العرب وحشر إلى الشام.
قال جل ذكره :«فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ».
كيف نصر المسلمين - مع قلّتهم - عليهم - مع كثرتهم. وكيف لم تمنعهم حصونهم إذا كانت الدائرة عليهم. وإذا أراد اللّه قهر عدوّ استنوق «٢» أسده.
ومن مواضع العبرة في ذلك ما قاله :«ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا» بحيث داخلتكم الرّيبة فى ذلك لفرط قوّتهم - فصانهم بذلك عن الإعجاب.
ومن مواضع العبرة في ذلك أيضا ما قاله «وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ» فلم يكن كما ظنّوه - ومن تقوّ بمخلوق أسلمه ذلك إلى صغاره «٣» ومذلّته.
ومن الدلائل الناطقة ما ألقى في قلوبهم من الخوف والرّعب، ثم تخريبهم بيوتهم بأيديهم علامة ضعف أحوالهم، وبأيدى المؤمنين لقوة أحوالهم، فتمت لهم الغلبة عليهم والاستيلاء على ديارهم وإجلاؤهم.
هذا كلّه لا بدّ أن يحصل به الاعتبار - والاعتبار أحد قوانين الشّرع.
ومن لم يعتبر بغيره اعتبر به غيره.

_
(١) حاصرهم إحدى وعشرين ليلة وأمر بقطع نخيلهم وأبى عليهم إلا الجلاء على أن يحمل كل ثلاثة أبيات على بعير واحد ما شاءوا من متاعهم فجلوا إلى أريحا وأذرعات بأرض الشام.
(٢) الألف والسين والتاء فيها للصيرورة أي صار ناقة والمقصود : تخاذل المتجبر وصغر شأنه.
٣) الصّغار - الرضى بالمذلة والهوان.


الصفحة التالية
Icon