يذكر تعالى للمؤمنين فضله عليهم وإحسانه لديهم في نصره إياهم في مواطن كثيرة من غزواتهم مع رسوله. وأن ذلك من عنده تعالى وبتأييده وتقديره لا بعددهم ولا بعددهم، ونبههم على أن النصر من عنده سواء قل الجمع أو كثر، فإن يوم حنين أعجبتهم كثرتهم. ومع هذا ما أجدى ذلك عنهم شيئاً، فولوا مدبرين إلا القليل منهم مع رسول الله ﷺ. ثم أنزل نصره وتأييده على رسوله وعلى المؤمنين الذين معه، ليعلمهم أن النصر من عنده تعالى وحده، وبإمداده، وإن قل الجمع، ﴿ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله والله مَعَ الصابرين ﴾ [ البقرة : ٢٤٩ ]، وقد كانت وقعة حنين بعد فتح مكة في شوال سنة ثمان من الهجرة، وذلك « لما فرغ ﷺ من فتح مكة وتمهدت أمورها. وأسلم عامة أهلها، وأطلقهم رسول الله ﷺ فبلغه أن ( هوازن ) جمعوا له ليقاتلوه، وأن أميرهم ( مالك بن عوف النضري ) ومعه ثقيف بكمالها وناس من بني عمرو بن عامر وعون بن عامر، وقد أقبلوا ومعهم النساء والولدان والشاء والنعم، وجاءوا بقضهم وقضيضهم؛ فخرج إليهم رسول الله ﷺ في جيشه الذي جاء معه للفتح وهو عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار وقبائل العرب، ومعه الذين أسلموا من أهل مكة، وهم الطلقاء في ألفين، فسار بهم إلى العدو، فالتقوا بواد بين مكة والطائف يقال له حنين، فكانت فيه الوقعة في أول النهار في غلس الصبح. انحدروا في الوادي وقد كمنت فيه هوازن، فلما تواجهوا لم يشعر المسلمون إلا بهم قد بادروهم، ورشقوا بالنبال، وأصلتوا السيوف، وحملوا حملة رجل واحد، كما أمرهم وملكهم، فعند ذلك ولّى المسلمون مدبرين كا قال الله عزَّ وجلَّ، وثبت رسول الله ﷺ وهو راكب يومئذ بغلته الشهباء، يسوقها إلى نحر العدو، والعباس عمه آخذ بركابها الأيمن، ويقول في تلك الحال :» أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب «، وثبت معه من أصحابه قريب من مائة، ثم أمر ﷺ عمه العباس وكان جهير الصوت أن ينادي بأعلى صوته : يا أصحاب الشجرة، يعني شجرة بيعة الرضوان التي بايعه المسلمون من المهاجرين والأنصار تحتها، على أن لا يفروا عنه، فجعل ينادي بهم : يا أصحاب السمرة، ويقول تارة : يا أصحاب سورة البقرة، فجعلوا يقولون : لبيك لبيك، وانعطف الناس، فتراجعوا إلى رسول الله ﷺ، حتى إن الرجل منهم إذا لم يطاوعه بعيره على الرجوع لبس درعه، ثم انحدر عنه وأرسله، ورجع بنفسه إلى رسول الله ﷺ، فلما اجتمعت شرذمة منهم عند رسول الله ﷺ أمرهم عليه السلام، أن يصدقوا الحملة، وأخذ قبضة من تراب بعدما دعا ربه واستنصره، وقال :» اللهم لي ما وعدتني، ثم رمى القوم بها، فما بقي إنسان منهم إلا أصابه منها في عينيه وفمه ما شغله عن القتال، ثم انهزموا، فاتبع المسلمون أقفاءهم يقتلون ويأسرون، وما تراجع بقية الناس إلا والأسرى محندلة بين يدي رسول الله ﷺ «.


الصفحة التالية
Icon