هذا مما يأمر الله تعالى به وهو الوفاء بالعهود والمواثيق والمحافظة على الأيمان المؤكدة، ولهذا قال :﴿ وَلاَ تَنقُضُواْ الأيمان بَعْدَ تَوْكِيدِهَا ﴾، ولا تعارض بين هذا وبين قوله :﴿ وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ ﴾ [ البقرة : ٢٢٣ ] الآية، وبين قوله تعالى :﴿ ذلك كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ واحفظوا أَيْمَانَكُمْ ﴾ [ المائدة : ٨٩ ] أي لا تتركوها بلا كفارة، وبين قوله عليه السلام فيما ثبت عنه في « الصحيحين » أنه ﷺ قال :« إني والله - إن شاء الله - لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها، وفي رواية : وكفرت عن يميني » « لا تعارض بين هذا كله ولا بين الآية المذكورة هاهنا وهي قوله :﴿ وَلاَ تَنقُضُواْ الأيمان بَعْدَ تَوْكِيدِهَا ﴾، لأن هذه الأيمان المراد بها الداخلة في العهود والمواثيق، لا الأيمان التي هي واردة على حث أو منع؛ ولهذا قال مجاهد في قوله :﴿ وَلاَ تَنقُضُواْ الأيمان بَعْدَ تَوْكِيدِهَا ﴾ يعني الحلف، أي حلف الجاهلية. ويؤيده ما رواه الإمام أحمد عن جبير بن مطعم قال، قال رسول الله ﷺ :» لا حلف في الإسلام، وأيما حلف كان في الجاهلية فإنه لا يزيده الإسلام إلاّ شدة «، ومعناه أن الإسلام لا يحتاج معه إلى الحلف الذي كان أهل الجاهلية يفعلونه، فإن في التمسك بالإسلام كفاية عما كانوا فيه. وقال ابن جرير، عن بريدة في قوله :﴿ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ الله إِذَا عَاهَدتُّمْ ﴾ قال : نزلت في بيعة النبي ص ﷺ على الإسلام، فقال :﴿ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ الله إِذَا عَاهَدتُّمْ ﴾ هذه البيعة التي بايعتم على الإسلام، ﴿ وَلاَ تَنقُضُواْ الأيمان بَعْدَ تَوْكِيدِهَا ﴾ لا يحملنكم قلة محمد وكثرة المشركين أن تنقضوا البيعة التي بايعتم على الإسلام. وقوله :﴿ إِنَّ الله يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ﴾ تهديد ووعيد لمن نقض الأيمان بعد توكيدها وقوله :﴿ وَلاَ تَكُونُواْ كالتي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً ﴾. قال السدي : هذه امرأة خرقاء كانت بمكة كلما غزلت شيئاً نقضته بعد إبرامه، وقال مجاهد وقتادة : هذا مثل لمن نقض عهده بعد توكيده، وهذا القول أرجح وأظهر، ساء كان بمكة امرأة تنقض غزلها أم لا، وقوله :﴿ أَنكَاثاً ﴾ أي انقاضاً، ﴿ تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ ﴾ أي خديعة ومكراً ﴿ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ ﴾ أي تحلفون للناس إذا كانوا أكثر منكم ليطمئنوا إليكم، فإذا أمكنكم الغدر بهم غدرتم، فنهى الله عن ذلك لينبه بالأدنى على الأعلى، قال ابن عباس :﴿ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ ﴾ : أي أكثر، وقال مجاهد : كانوا يحالفون الحلفاء فيجدون أكثر منهم وأعز، فينقضون حلف هؤلاء ويحالفون أولئك الذين هم أكثر وأعز فنهوا عن ذلك، وقوله :﴿ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ الله بِهِ ﴾ قال ابن جرير : أي بأمره إياكم بالوفاء بالعهد ﴿ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ القيامة مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴾ فيجازي كل عامل بعمله من خير وشر.


الصفحة التالية
Icon