يمجد تعالى نفسه، ويعظم شأنه، لقدرته على ما لا يقدر عليه أحد سواه، فلا إله غيره ولا رب سواه، ﴿ الذي أسرى بِعَبْدِهِ ﴾ يعني محمداً ﷺ، ﴿ لَيْلاً ﴾ : أي في جنح الليل، ﴿ مِّنَ المسجد الحرام ﴾ : وهو مسجد مكة ﴿ إلى المسجد الأقصى ﴾ وهو بيت المقدس الذي بإيلياء معدن الأنبياء من لدن إبراهيم الخليل عليه السلام، ولهذا جمعوا له هناك كلهم فأمهم في محلتهم ودارهم، فدل على أنه هو الإمام الأعظم، والرئيس المقدم، صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين. وقوله تعالى :﴿ الذي بَارَكْنَا حَوْلَهُ ﴾ : أي في الزروع والثمار، ﴿ لِنُرِيَهُ ﴾ : أي محمداً ﴿ مِنْ آيَاتِنَآ ﴾ : أي العظام، كما قال تعالى :﴿ لَقَدْ رأى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الكبرى ﴾ [ النجم : ١٨ ]، ﴿ إِنَّهُ هُوَ السميع البصير ﴾ أي السميع لأقوال عباده البصير بهم، فيعطي كلا منهم ما يستحقه في الدنيا والآخرة.
« ذكر الأحاديث الواردة في الإسراء »
قال الإمام البخاري، عن أنس بن مالك، يقول :« ليلة أسري برسول الله ﷺ من مسجد الكعبة، إنه جاءه ثلاثة نفر قبل أن يوحى إليه وهو نائم في المسجد الحرام، فقال أولهم : أيهم هو؟ فقال أوسطهم : هو خيرهم، فقال آخرهم : خذوا خيرهم، فكانت تلك الليلة فلم يرهم، حتى أتوه ليلة أخرى فيما يرى قلبه وتنام عينه ولا ينام قلبه - وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم - فلم يكلموه حتى احتملوه، فوضعوه عند بئر زمزم، فتولاه منهم جبريل، فشق جبريل ما بين نحره إلى لبته حتى فرغ من صدره وجوفه، فغسله من ماء زمزم بيده حتى أنقى جوفه، ثم أتى بطست من ذهب فيه تور من ذهب محشو إيماناً وحكمة فحشا به صدره ولغاديده - يعني عروق حلقه - ثم أطبقه، ثم عرج به إلى السماء الدنيا فضرب باباً من أبوابها فناداه أهل السماء من هذا؟ فقال : جبريل، قالوا : ومن معك؟ قال : معي محمد، قالوا : وقد بعث إليه؟ قال : نعم. قالوا : فمرحباً به وأهلاً. يستبشر به أهل السماء لا يعلم أهل السماء بما يريد الله به في الأرض حتى يعلمهم، فوجد في السماء الدنيا آدم، فقال له جبريل هذا أبوك آدم فسلم عليه، فسلم عليه ورد عليه، آدم، فقال : مرحباً وأهلاً بابني، نعم الابن أنت، فإذا هو في السماء الدنيا بنهرين يطردان، فقال :» ما هذان النهران يا جبريل؟ قال : هذان النيل والفرا عنصرهما، ثم مضى به في السماء فإذا هو بنهر آخر عليه قصر من لؤلؤل وزبرجد، فضرب بيده فإذا هو مسك أذفر، فقال : ما هذا يا جبريل؟ قال : هذا الكوثر الذي خبأ لك ربك، ثم عرج به إلى السماء الثانية، فقالت الملائكة له مثل ما قالت له الملائكة الأولى من هذا؟ قال جبريل، قالوا : ومن معك؟ قال : محمد ﷺ، قالوا : وقد بعث إليه؟ قال : نعم، قالوا : مرحباً به وأهلاً، ثم عرج به إلى السماء الثالثة فقالوا له مثل ما قالت الأولى والثانية. ثم عرج به إلى السماء الرابعة، فقالوا له مثل ذلك، ثم عرج به إلى السماء الخامسة، فقالوا له مثل ذلك. ثم عرج به إلى السماء السادسة، فقالوا له مثل ذلك ثم عرج به إلى السماء السابعة، فقالوا له مثل ذلك، كل سماء فيها أنبياء قد سماهم فوعيت منهم إدريس في الثانية، وهارون في الرابعة، وآخر في الخامسة لم أحفظ اسمه، وإبراهيم في السادسة، وموسى في السابعة بتفضيل كلام الله تعالى، فقال موسى : رب لم أظن أن ترفع علي أحداً.
ثم علا به فوق ذلك بما لا يعلمه إلا الله عزَّ وجلَّ، حتى جاء سدرة المنتهى، ودنا الجبار رب العزة فتدلى، حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى، فأوحى الله إليه فيما يوحي خمسين صلاة على أمتك كل يوم وليلة، ثم هب به حتى بلغ موسى، فاحتبسه موسى فقال : يا محمد، ماذا عهد إليك ربك؟ قال :« عهد إلي خمسين صلاة كل يوم وليلة ». قال إن أمتك لا تستطيع ذلك، فارجع فليخفف عنك ربك وعنهم، فالتفت النبي ﷺ إلى جبريل كأنه يستشيره في ذلك، فأشار إليه جبريل أن نعم إن شئت، فعلا ربه إلى الجبار تعالى وتقدس، فقال وهو في مكانه :« يا رب خفف عنا فإن أمتي لا تستطيع هذا »، فوضع عنه عشر صلوات، ثم رجع موسى فاحتبسه، فلم يزل يردده موسى إلى ربه حتى صارت إلى خمس صلوات، ثم احتبسه موسى عند الخمس، فقال : يا محمد والله لقد راودت بني إسرائيل قومي على أدنى من هذا فضعفوا فتركوه، فأمتك أضعف أجساداً وقلوباً وأبداناً وأبصاراً وأسماعاً، فارجع فليخفف عنك ربك، كل ذلك يلتفت النبي ﷺ إلى جبريل ليشير عليه ولا يكره ذلك جبريل، فرفعه عند الخامسة فقال :« يا رب إن أمتي ضعفاء، أجسادهم وقلوبهم وأسماعهم وأبصارهم وأبدانهم، فخفف عنا، فقال البجار تبارك وتعالى : يا محمد! قال :» لبيك وسعديك «، قال : إنه لا يبدل القول لدي كما فرضت عليك في أم الكتاب، فكل حسنة بعشر أمثالها، فهي خمسون في أم الكتاب، وهي خمس عليك، فرجع إلى موسى، فقال : كيف فعلت؟ فقال :» خفف عنا أعطانا بكل حسنة عشر أمثالها «، قال موسى : قد والله راودت بني إسرائيل على أدنى من ذلك فتركوه، فارجع إلى ربك فليخفف عنك أيضاً، قال رسول الله ﷺ :» يا موسى قد والله استحييت من ربي عزَّ وجلَّ مما اختلف إليه «. قال فاهبط باسم الله. قال واستيقظ وهو في المسجد الحرام »