ومنهم من جزم لهم بالنار، لقوله عليه السلام :« هم مع آبائهم » ومنهم من ذهب إلى أنهم يمتحنون يوم القيامة في العرصات، فمن أطاع دخل الجنة وانكشف علم الله فيهم بسابق السعادة، ومن عصى دخل النار داخراً وانكشف علم الله فيه بسابق الشقاوة. وهذا القول يجمع بين الأدلة كلها. وقد صرحت به الأحاديث المتقدمة المتعاضدة الشاهد بعضها لبعض. وهذا القول الذي حكاه الشيخ أبو الحسن الأشعري عن أهل السنّة والجماعة، وهو الذي نصره الحافظ أبو بكر البيهقي في « كتاب الاعتقاد ». وكذلك غيره من محققي العلماء والحفاظ والنقاد. وقد ذكر الشيخ ابن عبد البر أن أحاديث هذا الباب ليست قوية ولا تقوم بها حجة، وأهل العلم ينكرونها لأن الآخرة دار جزاء وليست بدار عمل ولا ابتلاء، فكيف يكلفون دخول النار، وليس ذلك في وسع المخلوقين، والله لا يكلف نفساً إلا وسعها.
( والجواب ) عما قال : إن أحاديث هذا الباب منها ما هو صحيح كما قد نص على ذلك كثيرر من أئمة العلماء، ومنها ما هو حسن، ومنها ما هو ضعيف يتقوى بالصحيح والحسن، وإذا كانت أحاديث الباب الواحد متصلة متعاضدة على هذا النمط أفادت الحجة عند الناظر فيها. وأما قوله : إن الدار الآخرة دار جزاء فلا شك أنها دار جزاء ولا ينافي التكليف في عرصاتها قبل دخول الجنة أو النار كما حكاه الشيخ أبو الحسن الأشعري عن مذهب أهل السنّة والجماعة من أمتحان الأطفال. وقد قال تعالى :﴿ يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السجود ﴾ [ القلم : ٤٢ ] الآية. وقد ثبت في الصحاح وغيرها أن المؤمنين يسجدون لله يوم القيامة، وأن المنافق لا يستطيع ذلك ويعود ظهره كالصفيحة الواحدة طبقاً واحداً، كلما أراد السجود خر لقفاه. وفي « الصحيحين » في الرجل الذي يكون آخر أهل النار خروجاً منها، أن الله يأخذ عهوده ومواثيقه أن لا يسأل غير ما هو فيه، ويتكرر ذلك مراراً، ويقول الله تعالى : يا ابن آدم ما أغدرك! ثم يأذن له في دخول الجنة، وأما قوله : فكيف يكلفهم الله دخول النار وليس ذلك في وسعهم، فليس هذا بمانع من صحة الحديث، فإن الله يأمر العباد يوم القيامة بالجواز على الصراط، وهو جسر على جهنم أحد من السيف وأدق من الشعرة، ويمر المؤمنون عليه بحسب أعمالهم كالبرق وكالريح، وكأجاويد الخيل، والركاب، ومنهم الساعي ومنهم الماشي، ومنهم من يحبو حبواً، ومنهم المكدوش على وجهه في النار، وليس ما ورد في أولئك بأعظ ممن هذا بل هذا أطم وأعظم. وأيضاً فقد ثبتت السنّة بأن الدجال يكون معه جنة ونار، وقد أمر الشارع المؤمنين الذين يدركونه أن يشرب أحدهم من الذي يرى أنه نار فإنه يكون عليه برداً وسلاماً، فهذا نظير ذاك، وأيضاً فإن الله تعالى أمر بني إسرائيل أن يقتلوا أنفسهم، فقتل بعضهم بعضاً حتى قتلوا فيما قيل في غداة واحدة سبعين ألفاً، يقتل الرجل أباه وأخاه وهم في عماية غمامة أرسلها الله عليهم، وذلك عقوبة لهم على عبادتهم العجل، وهذا أيضاً شاق على النفوس جداً لا يتقاصر عما ورد في الحديث المذكور، والله أعلم.