وهذا برهان ثان لموسى عليه السلام، وهو أن الله أمره أن يدخل يده في جيبه، كما صرح به في الآية الأخرى. وهاهنا عبر عن ذلك بقوله :﴿ واضمم يَدَكَ إلى جَنَاحِكَ ﴾، وقال في مكان آخر :﴿ واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرهب فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ ﴾ [ القصص : ٣٢ ]، وقال مجاهد :﴿ واضمم يَدَكَ إلى جَنَاحِكَ ﴾ : كفك تحت عضدك؛ وذلك أن موسى عليه السلام كان إذا أدخل يده في جيبه ثم أخرجها، تخرج تتلألأ كأنها فلقة قمر. وقوله ﴿ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سواء ﴾ أي من غير برص ولا أذى، ومن غير شين، وقال الحسن البصري : أخرجها والله كأنها مصباح، فعلم موسى أنه قد لقي ربه عزّ وجلّ، ولهذا قال تعالى :﴿ لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الكبرى ﴾، وقال وهب، قال له ربه : أدنه، فلم يزل يدنيه حتى أسند ظهره بجذع الشجرة فاستقر، وذهبت عنه الرعدة، وجمع يده في العصا وخضع برأسه وعنقه. وقوله ﴿ اذهب إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى ﴾ : أي اذهب إلى فرعون ملك مصر، الذي خرجت فاراً منه وهارباً، فادعه إلى عبادة الله وحده لا شريك له، ومره فليحسن إلى بني إسرائيل ولا يعذبهم، فإنه قد طغى وبغى وآثر الحياة الدنيا ونسي الرب الأعلى. قال وهب بن منبه : قال الله لموسى : انطلق برسالتي فإنك بسمعي وعيني، وقد ألبستك جنة من سلطاني لتستكمل بها القوة في أمري، فأنت جند عظيم من جندي، بعثتك إلى خلق ضعيف من خلقي، بطر نعمتي وأمن مكري، وغرته الدنيا عني، حتى جحد حقي وأنكر ربوبيتي، وزعم أنه لا يعرفني فإني أقسم بعزتي لولا القدر الذي وضعت بيني وبين خلقي، لبطشت به بطشة جبار، يغضب لغضبه السماوات والأرض والجبال والبحار، فإن أمرت السماء حصبته، وإن أمرت الأرض ابتلعته، وإن أمرت الجبال دمرته، وإن أمرت البحار غرقته، ولكنه برهان عليّ وسقط من عيني، ووسعه حلمي واستغنيت بما عندي وحقي، إني أنا الغني لا غني غيري، فبلغه رسالتي، وادعه إلى عبادتي وتوحيدي وإخلاصي، وذكره أيامي وحذره من نقمتي وبأسي، وقل له فيما بين ذلك قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى، وأخبره أني إلى العفو والمغفرة أسرع مني إلى الغضب والعقوبة، ولا يروعنك ما ألبسته من لباس الدنيا، فإن ناصيته بيدي، أفيظن الذي يحاربني أن يقوم لي، أم يظن الذي يعاديني أن يعجزني، أم يظن الذي يبارزني أن يسبقني أو يفوتني.
﴿ قَالَ رَبِّ اشرح لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لي أَمْرِي ﴾ هذا سؤال من موسى عليه السلام لربه عزّ وجل، أن يشرح له صدره فيما بعثه به، فإنه قد أمره بأمر عظيم، وخطب جسيم، بعثه إلى أعظم ملك على وجه الأرض إذ ذاك، وأجبرهم وأشدهم كفراً وأكثرهم جنوداً، وأبلغهم تمرداً، هذا وقد مكث موسى في داره وليداً عندهم في حجر فرعون على فراشه، ثم قتل منهم نفساً فخافهم أن يقتلوه فهرب منهم، هذه المدة بكمالها، ثم بعد هذا بعثه ربه عزّ وجلّ إليهم نذيراً يدعوهم إلى الله عزَّ وجلَّ أن يعبدوه وحده لا شريك له، ولهذا قال :﴿ قَالَ رَبِّ اشرح لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لي أَمْرِي ﴾ أي إن لم تكن أنت عوني ونصيري وعضدي وظهيري وإلاّ فلا طاقة لي بذلك ﴿ واحلل عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي * يَفْقَهُواْ قَوْلِي ﴾.