فلما بلغ أشده، وكان من الرجال، لم يكن أحد من آل فرعون يخلص إلى أحد من بني إسرائيل معه بظلم ولا سخرة حتى امتنعوا كل الامتناع، فبينما موسى عليه السلام يمشي في ناحية المدينة إذا هو برجلين يقتتلان، أحدهما فرعوني والآخر إسرائيلي، فاستغاثه الإسرائيلي على الفرعوني فغضب موسى غضباً شديداً لأنه تناوله، وهو يعلم منزلته من بني إسرائيل وحفظه لهم، لا يعلم الناس إلاّ إنما من الرضاع، إلاّ أم موسى، إلاّ أن يكون الله أطلع موسى من ذلك على ما لم يطلع عليه غيره، فوكز موسى الفرعوني فقتله، وليس يراهما أحد إلاّ الله عزَّ وجلَّ والإسرائيلي، فقال موسى حين قتل الرجل : هذا من عمل الشيطان إنه عدوّ مضل مبين، ثم قال :﴿ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فاغفر لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم ﴾ [ القصص : ١٦ ]، فأصبح في المدينة خائفاً يترقب الأخبار، فأتى فرعون، فقيل له : إن بني إسرائيل قتلوا رجلاً من آل فرعون فخذ لنا بحقنا ولا ترخص لهم، فقال : ابغوني قاتله ومن يشهد عليه، فإن الملك وإن كان صفوة مع قومه لا يستقيم له أن يقيد بغير بينة ولا ثبت، فاطلبوا لي علم ذلك آخذ لكم بحقكم. فبينما هم يطوفون لا يجدون ثبتاً إذا بموسى من الغد قد رأى ذلك الإسرائيلي يقاتل رجلاً من آل فرعون آخر، فاستغاثه الإسرائيلي على الفرعوني فصادف موسى قد ندم على ما كان منه، وكره الذي رأى، فغضب الإسرائيلي وهو يريد أن يبطش بالفرعوني، فقال للإسرائيلي لما فعل بالأمس واليوم إنك لغوي مبين، فنظر الإسرائيلي إلى موسى بعد ما قال له ما قال، فإذا هو غضبن كغضبه بالأمس الذي قتل فيه الفرعوني، فخاف أن يكون بعد ما قال له إنك لغوي مبين، أن يكون إياه أراد ولم يكن أراده إنما أراد الفرعوني، فخاف الإسرائيلي وقال : يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفساً بالأمس، وإنما قاله مخافة أن يكون إياه أراد موسى ليقتله فتتاركا، وانطلق الفرعوني فأخبرهم بما سمع من الإسرائيلي من الخبر، حين يقول : يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفساً بالأمس. فأرسل فرعون الذباحين ليقتلوا موسى، فأخذ رسل فرعون في الطريق الأعظم يمشون على هينتهم، يطلبون موسى وهم لا يخافون أن يفوتهم، فجاء رجل من شيعة موسى من أقصى المدينة، فاختصر طريقاً حتى سبقهم إلى موسى فأخبره، وذلك من الفتون يا ابن جبير.
فخرج موسى متوجهاً نحو مدين لم يلق بلاء قبل ذلك، وليس له بالطريق علم إلاّ حسن ظنه بربه عزّ وجلّ، فإنه قال :


الصفحة التالية
Icon