لما سار موسى عليه السلام ببني إسرائيل بعد هلاك فرعون، وواعد ربه ثلاثين ليلة ثم أتبعها عشر فتمت أربعين ليلة، أي يصومها ليلاً ونهاراً، وقد تقدم في حديث الفتون بيان ذلك، فسارع موسى عليه السلام مبادراً إلى الطور، واستخلف على بني إسرائيل أخاه هارون، ولهذا قال تعالى :﴿ وَمَآ أَعْجَلَكَ عَن قَومِكَ ياموسى * قَالَ هُمْ أولاء على أَثَرِي ﴾ أي قادمون ينزلون قريباً من الطور، ﴿ وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لترضى ﴾ أي لتزداد عني رضا، ﴿ قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السامري ﴾، أخبر تعالى نبيّه موسى بما كان بعده من الحدث في بني سرائيل، وعبادتهم العجل الذي عمله لهم ذلك السامري، وقوله ﴿ فَرَجَعَ موسى إلى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً ﴾ أي رجع بعد ما أخبره تعالى بذلك في غاية الغضب والحنق عليهم، والأسف : شدة الغضب، وقال مجاهد ﴿ غَضْبَانَ أَسِفاً ﴾ ؛ أي جزعاً، وقال قتادة والسدي : أسفاً حزيناً على ما صنع قومه من بعده، ﴿ قَالَ ياقوم أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً ﴾ أي أما وعدكم على لساني كل خير في الدنيا والآخرة وحسن العاقبة كما شاهدتم من نصرته إياكم على عدوكم وإظهاركم عليه، وغير ذلك من أيادي الله، ﴿ أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ العهد ﴾ أي في انتظار ما وعدكم الله ونسيان ما سلف من نعمه ﴿ أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ ﴾ « أم » هاهنا بمعنى بل، هي للإضراب عن الكلام الأول، وعدول إلى الثاني؛ كأنه يقول : بل أردتم بصنيعكم هذا أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي، قالوا - أي بنو إسرائيل، في جواب ما أنبهم موسى وقرعهم - ﴿ مَآ أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا ﴾ أي عن قدرتنا واختيارنا، ثم شرعوا يعتذرون بالعذر البارد، يخبرونه عن تورعهم عما كان بأيديهم من حلي القبط الذي كانوا قد استعاروه منهم حين خرجوا من مصر، ﴿ فَقَذَفْنَاهَا ﴾ أي ألقيناها عنا، ودعا السامري أن يكون عجلاً، فكان عجلاً ﴿ لَّهُ خُوَارٌ ﴾ أي صوت، استدراجاً وإمهالاً ومحنة واختباراً ولهذا قال :﴿ فَكَذَلِكَ أَلْقَى السامري * فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ ﴾.
عن ابن عباس، أن هارون مر بالسامري وهو ينحت العجل، فقال له : ما تصنع؟ فقال : أصنع ما يضر ولا ينفع، فقال هارون : اللهم أعطه ما سألك على ما في نفسه، ومضى هارون وقال السامري : اللهم إني أسألك أن يخور، فخار، فكان إذا خار سجدوا له، وإذا خار رفعوا رؤوسهم، وقال السدي : كان يخور ويمشي، فقالوا : أي الضُلاّل منهم الذين افتتنوا بالعجل وعبدوه ﴿ هاذآ إلهكم وإله موسى ﴾ أي نسيه هاهنا وذهب يتطلبه، وعن ابن عباس ﴿ فَنَسِيَ ﴾ أي نسي أن يذكركم أن هذا إلهكم، فعكفوا عليه وأحبوه حباً لم يحبوا شيئاً قط، قال الله تعالى رداً عليهم وتقريعاً لهم وبياناً لفضيحتهم وسخافة عقولهم فيما ذهبوا إليه :﴿ أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلاَ يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً ﴾ أي العجل، فلا يرون أنه لا يجيبهم إذا سألوه، ولا إذا خاطبوه، ولا يملك لهم ضراً ولا نفعاً، أي في دنياهم ولا في أخراهم، قال ابن عباس : لا والله ما كان خواره إلا أن يدخل الريح في دبره فيخرج من فمه فيسمع له صوت، وحاصل ما اعتذر به هؤلاء الجهلة أنهم تورعوا عن زينة القبط فألقوها عنهم، وعبدوا العجل فتورعوا عن الحقير وفعلوا الأمر الكبير، كما جاء في الحديث الصحيح عن عبد الله بن عمر، أنه سأله رجل من أهل العراق عن دم البعوض إذا أصاب الثوب، يعني هل يصلي فيه أم لا؟ فقال ابن عمر رضي الله عنهما : انظروا إلى أهل العراق! قتلوا ابن بنت رسول الله ﷺ، يعني الحسين، وهم يسألون عن دم البعوضة!.