قد تقدم أن موسى عليه السلام قضى أتم الأجلين وأوفاهما وأبرهما وأكملهما. قوله :﴿ وَسَارَ بِأَهْلِهِ ﴾ قالوا : كان موسى قد اشتاق إلى بلاده وأهله، فعزم على زيارتهم خفية من فرعون وقومه، فتحمل بأهل وما كان معه من الغنم التي وهبها له صهره، فسلك بهم في ليلة مطيرة مظلمة باردة، فنزل منزلاً فجعل كلما أورى زنده لا يضيء شيئاً فتعجب من ذلك، فبينما هو كذلك ﴿ آنَسَ مِن جَانِبِ الطور نَاراً ﴾ أي رأى ناراً تضيء على بعد ﴿ قَالَ لأَهْلِهِ امكثوا إني آنَسْتُ نَاراً ﴾ أي حتى أذهب إليها ﴿ لعلي آتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ ﴾ وذلك لأنه قد أضل الطريق ﴿ أَوْ جَذْوَةٍ مِّنَ النار ﴾ أي قطعة منها ﴿ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ ﴾ أي تستدفئون بها من البرد، قال الله تعالى :﴿ فَلَمَّآ أَتَاهَا نُودِيَ مِن شَاطِىءِ الوادي الأيمن ﴾ أي من جانب الوادي مما يلي الجبل عن يمينه من ناحية الغرب، كما قال تعالى :﴿ وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغربي إِذْ قَضَيْنَآ إلى مُوسَى الأمر ﴾ [ القصص : ٤٤ ] فهذا مما يرشد إلى أن موسى قصد النار إلى جهة القبلة، والجبل الغربي عن يمينه، والنار وجدها تضطرم في شجرة خضراء، في لحف الجبل مما يلي الوادي فوقف باهتاً في أمرها فناداه ربه ﴿ أَن ياموسى إني أَنَا الله رَبُّ العالمين ﴾ أي الذي يخاطبك ويكلمك هو ﴿ رَبُّ العالمين ﴾ الفعل لما يشاء، تعالى وتقدس وتنزه عن مماثلة المخلوقات، في ذاته وصفاته وأقواله وأفعاله، وقوله :﴿ وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ ﴾ أي التي في يدك، كما في قوله تعالى :﴿ وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ياموسى * قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا على غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أخرى ﴾ [ طه : ١٧-١٨ ]، والمعنى : أمنا هذه عصاك التي تعرفها ﴿ أَلْقِهَا ياموسى * فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تسعى ﴾ [ طه : ١٩-٢٠ ]، فعرف وتحقق أن الذي يكلمه ويخاطبه هو الذي يقول للشيء كن فيكون ﴿ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ ﴾ أي تضطرب، ﴿ كَأَنَّهَا جَآنٌّ ولى مُدْبِراً ﴾ أي في حركاتها السريعة مع عظم خلقتها واتساع فمها، واصطكاك أنيابها بحيث لا تمر بصخرة إلاّ ابتلعتها تنحدر في فيها، تتقعقع كأنها حادرة في واد، فعند ذلك ﴿ ولى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ ﴾ أي ولم يلتفت لأن طبع البشرية ينفر من ذلك، فلما قال الله له :﴿ ياموسى أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمنين ﴾ رجع فوقف في مقامه الأول، ثم قال الله تعالى :﴿ اسلك يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سواء ﴾ أي إِذا أدخلت يدك في جيب درعك ثم أخرجتها فإنها تخرج تتلألأ كأنها قطعة قمر في لمعان البرق، ولهذا قال ﴿ مِنْ غَيْرِ سواء ﴾ : أي من غير برص. وقوله تعالى :﴿ واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرهب ﴾ قال مجاهد : من الفزع، وقال قتادة : من الرعب مما حصل لك من خوفك من الحية، والظاهر أنه أمر عليه السلام إذا خاف من شيء أن يضم إليه جناحه من الرهب، وهو يده فإذا فعل ذلك ذهب عنه ما يجده من الخوف، وربما إذا استعمل أحد ذلك على سبيل الاقتداء فوضع يده على فؤاده، فإنه يزول عنه ما يجده.