يقول تعالى مسلياً لنبيه ﷺ، وآمراً له بالتأسي بمن قبله من الرسل، ومخبراً له بأنه ما بعث نبياً في قرية إلا كذبه مترفوها واتبعه ضعفاءهم، كما قال قوم نوح :﴿ أَنُؤْمِنُ لَكَ واتبعك الأرذلون ﴾ [ الشعراء : ١١١ ]، وقال الكبراء من قوم صالح :﴿ لِلَّذِينَ استضعفوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحاً مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ قالوا إِنَّا بِمَآ أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ * قَالَ الذين استكبروا إِنَّا بالذي آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ﴾ [ الأعراف : ٧٥-٧٦ ]، وقال تعالى :﴿ وكذلك جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا ﴾ [ الأنعام : ١٢٣ ]، وقال جلَّ وعلا :﴿ وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القول فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً ﴾ [ الإسراء : ١٦ ]، وقال جلَّ وعلا هاهنا :﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ ﴾ أي نبي أو رسول ﴿ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ ﴾ وهم أولوا النعمة والحشمة والثروة والرياسة، قال قتادة : هم جبابرتهم وقادتهم ورؤوسهم في الشر ﴿ إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ﴾ أي لا نؤمن به ولا نتبعه، عن أبي رزين قال :« كان رجلان شريكان خرج أحدهما إلى الساحل وبقي الآخر، فلما بعث النبي ﷺ كتب إلى صاحبه يسأله ما فعل، فكتب إليه إنه لم يتبعه أحد من قريش إنما اتبعه أراذل الناس ومساكينهم، قال : فترك تجارته ثم أتى صاحبه، فقال؛ دلني عليه، وكان يقرأ الكتب أو بعض الكتب، قال : فأتى النبي ﷺ فقال : إلامَ تدعو؟ قال :» أدعوا إلى كذا وكذا « قال أشهد أنك رسول الله، قال ﷺ :» وما علمك بذلك «؟ قال : إنه لم يبعث نبي إلا اتبعه أراذل الناس ومساكينهم »، قال : فنزلت هذه الآية :﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ﴾، وهكذا قال هرقل لأبي سفيان حين سأله عن تلك المسائل قال فيها : وسألتك أضعفاء الناس اتبعه أم أشرافهم، فزعمت بن ضعفاؤهم وهم أتباع الرسل. وقال تبارك وتعالى إخباراً عن المتفرقين المكذبين :﴿ وَقَالُواْ نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ﴾ أي افتخروا بكثرة الأموال والأولاد، واعتقدوا أن ذلك دليل على محبة الله تعالى لهم واعتنائه بهم، وأنه ما كان ليعطيهم هذا في الدنيا ثم يعذبهم في الآخرة، وهيهات لهم ذلك، قال الله تعالى :﴿ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الخيرات بَل لاَّ يَشْعُرُونَ ﴾ [ المؤمنون : ٥٥-٥٦ ]، وقال تبارك وتعالى :﴿ فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الحياة الدنيا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ﴾ [ التوبة : ٥٥ ]، ولهذا قال عزَّ وجلَّ هاهنا :﴿ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ ﴾ أي يعطي المال لمن يحب ومن لا يحب، فيفقر من يشاء ويغني من يشاء، وله الحكمة التامة البالغة، والحجة القاطعة الدامغة ﴿ ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ ﴾، ثم قال تعالى :﴿ وَمَآ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ بالتي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زلفى ﴾ أي ليست هذه دليلاً على محبتنا لكم ولا اعتنائنا بكم، ولهذا قال الله تعالى :﴿ إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ﴾ أي إنما يقربكم عندنا زلفى الإيمانُ والعمل الصالح ﴿ فأولئك لَهُمْ جَزَآءُ الضعف بِمَا عَمِلُواْ ﴾ أي تضاعف لهم الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف ﴿ وَهُمْ فِي الغرفات آمِنُونَ ﴾ أي في منازل الجنة العالية ﴿ آمِنُونَ ﴾ من كل بأس وخوف وأذى، ومن كل شر يحذر منه.


الصفحة التالية
Icon