هذه الآية الكريمة دعوة لجميع العصاة من الكفرة وغيرهم إلى التوبة والإنابة، وإخبار بأن الله تبارك وتعالى يغفر الذنوب جميعاً لمن تاب منها ورجع عنها، وإن كانت مهما كانت وإن كثرت وكانت مثل زبد البحر، ولا يصح حمل هذه على غير توبة، لأن الشرك لا يغفر لمن لم يتب منه، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن ناساً من أهل الشرك كانوا قد قتلوا فأكثروا، وزنوا فأكثروا، فأتوا محمداً ﷺ فقالوا : إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة، فنزل :﴿ والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق وَلاَ يَزْنُونَ ﴾ [ الفرقان : ٦٨ ]، ونزل :﴿ قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله ﴾. وعن ثوبان مولى رسول الله ﷺ قال، سمعت رسول الله ﷺ يقول :« ما أحب أن لي الدنيا وما فيها بهذه الآية ﴿ قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ ﴾ » إلى آخر الآية. وعن عمرو بن عنبسة رضي الله عنه قال :« جاء رجل إلى النبي ﷺ شيخ كبير يدعم على عصاً له فقال : يا رسول الله إن لي غدرات وفجرات، فهل يغفر لي؟ فقال ﷺ :» ألست تشهد أن لا إله إلا الله؟ قال : بلى، وأشهد أنك رسول الله، فقال صلى لله عليه وسلم :« قد غفر لك غدراتك وفجراتك » «. وروى الإمام أحمد، عن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها قالت : سمعت رسول الله ﷺ يقرأ :﴿ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ﴾ [ هود : ٤٦ ] وسمعته ﷺ يقول :﴿ قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم ﴾.
فهذه الأحادث كلها دالة على أن المراد أنه يغفر جميع ذلك مع التوبة، ولا يقنطن عبد من رحمة الله، وإن عظمت ذنوبه وكثرت، فإن باب الرحمة والتوبة واسع، قال الله تعالى :﴿ أَلَمْ يعلموا أَنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ ﴾ [ التوبة : ١٠٤ ]، وقال عزّ وجلّ :﴿ وَمَن يَعْمَلْ سواءا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ الله يَجِدِ الله غَفُوراً رَّحِيماً ﴾ [ النساء : ١١٠ ]، وقال جلّ علا في حق المنافقين :﴿ إِنَّ المنافقين فِي الدرك الأسفل مِنَ النار وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً * إِلاَّ الذين تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ ﴾ [ النساء : ١٤٥-١٤٦ ]، وقال تبارك وتعالى :﴿ إِنَّ الذين فَتَنُواْ المؤمنين والمؤمنات ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ ﴾ [ البروج : ١٠ ] قال الحسن البصري رحمه الله : انظروا إلى هذا الكرم والجود قتلوا أولياءه وهو يدعوهم إلى التوبة والمغفرة، والآيات في هذه كثيرة جداً، وفي » الصحيحين « عن أبي سعيد رضي الله عنه عن رسول الله ﷺ حديث الذي قتل تسعاً وتسعين نفساً، ثم ندم وسأل عابداً من عباد بني إسرائيل هل له من توبة؟ فقال : لا فقتله وأكمل به مائة، ثم سأل عالماً من علمائهم هل له من توبة؟ فقال : ومن يحول بينك وبين التوبة؟ ثم أمره بالذهاب إلى قرية يعبد الله فيها فقصدها، فأتاه الموت في أثناء الطريق، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فأمر الله عزّ وجلّ أن يقيسوا ما بين الارضين فإلى أيهما كان أقرب منها، فوجوده أقرب إلى الأرض التي هاجر إليها بشبر فقبضته ملائكة الرحمة، هذا معنى الحديث، وقد كتبناه في موضع آخر بلفظه، وقال ابن عباس في قوله عزّ وجلّ :﴿ قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ ﴾ الآية.