يقول تعالى :﴿ وَمَن يَعْشُ ﴾ أي يتعامى ويتغافل ويعرض ﴿ عَن ذِكْرِ الرحمن ﴾، والعشا في العين ضعف بصرها، والمراد هاهنا عشا البصيرة، ﴿ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ﴾ كقوله تعالى :﴿ فَلَمَّا زاغوا أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ ﴾ [ الصف : ٥ ] ولهذا قال تبارك وتعالى هاهنا :﴿ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السبيل وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ ﴾. ﴿ حتى إِذَا جَآءَنَا ﴾ أي هذا الذي تغافل عن الهدى، إذا وافى الله عزّ وجلّ يوم القيامة، يتبرم بالشيطان الذي وُكِّلَ به ﴿ قَالَ ياليت بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ المشرقين فَبِئْسَ القرين ﴾ والمراد بالمشرقين هاهنا هو ما بين المشرق والمغرب، وإنما استعمل هاهنا تغليباً كما يقال : القمران والعُمَران والأبوان، قال ابن جرير وغيره، ثم قال تعالى :﴿ وَلَن يَنفَعَكُمُ اليوم إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي العذاب مُشْتَرِكُونَ ﴾ أي لا يغني عنكم إجتماعتكم في النار واشتراككم في العذاب الأليم. وقوله جلت عظمته :﴿ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصم أَوْ تَهْدِي العمي وَمَن كَانَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ﴾ ؟ أي ليس ذلك إليكم، إنما عليك البلاغ، وليس عليك هداهم، ثم قال تعالى؟ :﴿ فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ ﴾ أي لا بد من أن ننتقم منهم ونعاقبهم ولو ذهبت أنت، ﴿ أَوْ نُرِيَنَّكَ الذي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُّقْتَدِرُونَ ﴾ أي نحن قادرون على هذا ولم يقبض الله تعالى رسول الله ﷺ حتى أقرّ عينه من أعدائه، وحكّمه في نواصيهم، واختاره ابن جرير، وقال قتادة : ذهب النبي ﷺ : وبقيت النقمة، ولن يُرِيَ اللهُ تبارك وتعالى نبيَّه ﷺ في أُمته شيئاً يكرهه، حتى مضى ولم يكن نبي قط إلا وقد رأى العقوبة في أُمته إلا نبيكم ﷺ، قال : وذكر لنا أن رسول الله ﷺ أري ما يصيب أُمته من بعده، فما رئي ضاحكاً منبسطاً حتى قبضه الله عزّ وجلّ، ثم قال عزّ وجلّ :﴿ فاستمسك بالذي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ على صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ أي خذ بالقرآن المنزل على قبلك، فإنه هو الحق وما يهدي إليه هو الحق، المفضي إلى صراط الله المستقيم، الموصل إلى جنات النعيم.
ثم قال جلّ جلاله :﴿ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ ﴾، قيل معناه لشرف لك ولقومك، وفي الحديث :« إن هذا الأمر في قريش لا ينازعهم فيه أحد إلا أكبَّه الله تعالى على وجهه ما أقاموا الدين »، ومعناه أنه أشرف لهم من حيث أنه أنزل بلغتهم، فهم أفهم الناس له، فينبغي أن يكونوا أقوم الناس به، وأعملهم بقمتضاه، وهكذا كان خيارهم وصفوتهم من الخلّص، من المهاجرين السابقين الأوّلين ومن شابههم وتابعهم، وقيل معناه :﴿ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ ﴾ أي لَتذكيرٌ لك ولقومك، وتخصيصهم بالذكر لا ينفي من سواهم، كقوله تعالى :﴿ لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾ [ الأنبياء : ١٠ ]، وكقوله تعالى :﴿ وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين ﴾ [ الشعراء : ٢١٤ ]، ﴿ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ ﴾، أي عن هذا القرآن وكيف كنتم في العمل به والاستجابة له، وقوله سبحانه وتعالى :﴿ وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرحمن آلِهَةً يُعْبَدُونَ ﴾ ؟ أي جميع الرسل دعوا إلى ما دعوت الناس إليه، من عبادة الله وحده لا شريك له، ونهوا عن عبادة الأصنام والأنداد، كما قال تعالى :﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ﴾ [ النحل : ٣٦ ].


الصفحة التالية
Icon