لما ذكر تعالى في الآية الأولى التوحيد له وأخلاص العبادة والاستقامة إليه، عطف بالوصية بالوالدين، كما هو مقرون في غير ما آية من القرآن كقوله عزّ وجلّ :﴿ وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ وبالوالدين إِحْسَاناً ﴾ [ الإسراء : ٢٣ ]، وقوله جلّ جلاله :﴿ أَنِ اشكر لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ المصير ﴾ [ لقمان : ١٤ ] إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة، وقال عزّ وجلّ هاهنا :﴿ وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً ﴾ أي أمرناه بالإحسان إليهما والحنو عليهما، روى أبو داود الطيالسي، عن سعد رضي الله عنه قال : قالت أم سعد لسعد : أليس قد أمر الله بطاعة الوالدين؟ فلا آكل طعاماً ولا أشرب شراباً حتى تكفر بالله تعالى، فامتنعتْ من الطعام والشراب، حتى جعلوا يفتحون فاها بالعصا، ونزلت هذه الآية :﴿ وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً ﴾ الآية، ﴿ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً ﴾ أي قاست بسببه في حال حمله مشقة وتعباً، من وَحَم وغشيان وثقل وكرب إلى غير ذلك، مما تنال الحوامل من التعب والمشقة، ﴿ وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً ﴾ أي بمشقة أيضاً من الطلق وشدته، ﴿ وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً ﴾ وقد استدل بهذه الأية مع التي في لقمان ﴿ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ ﴾ [ الآية : ١٤ ]، على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر، وهو استنباط قوي صحيح، روى محمد بن إسحاق، عن معمر بن عبد الله الجهني قال : تزوج رجل منا امرأة من جهينة، فولدت له لتمام ستة أشهر، فانطلق زوجها إلى عثمان رضي الله عنه، فذكر ذلك له، فبعث إليها فلما قامت لتلبس ثيابها بكت أختها، فقالت : ما يبكيك، فوالله ما التبس بي أحد من خلق الله تعالى غيره قط، فيقضي الله سبحانه وتعالى فيَّ ما شاء، فلما أتى بها عثمان رضي الله عنه أمر برجمها، فبلغ ذلك علياً رضي الله عنه، فأتاه فقال له : ما تصنع؟ قال : ولدت تماماً لستة أشهر وهل يكون ذلك؟ فقال له علي رضي الله عنه : أما تقرأ القرآن؟ قال : بلى، قال : أما سمعت الله عزَّ وجلَّ يقول :﴿ وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً ﴾ وقال :﴿ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ﴾ [ البقرة : ٢٣٣ ] فلم نجده بقي إلاّ ستة أشهر، قال، فقال عثمان رضي الله عنه : والله ما فطنت بهذا، عليَّ بالمرأة، فوجودها قد فرغ منها، قال، فقال معمر : فوالله ما الغراب بالغراب، ولا البيضة بالبيضة أشبه منه بأبيه، فلما رآه أبوه قال : ابني والله لا أشك فيه، قال، وابتلاه الله تعالى بهذه القرحة بوجهه الآكلة، فما زالت تأكله حتى مات، وقال ابن عباس : إذا وضعت المرأة لتسعة أشهر كفاه من الرضاع أحد عشرون شهراً، وإذا وضعته لسبعة أشهر كفاه من الرضاع ثلاث وعشرون شهراً، وإذا وضعته لستة أشره فحولين كاملين، لأن الله تعالى يقول :﴿ وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً ﴾ ﴿ حتى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ ﴾ أي قوي وشب وارتجل، ﴿ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً ﴾ أي تناهى عقله، كمل فهمه وحلمه، ويقال إنه لا يتغير غالباً عما يكون عليه ابن الأربعين، وروى الحافظ الموصلي، عن عثمان رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال :


الصفحة التالية
Icon