وقوله تبارك وتعالى ﴿ وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الجن ﴾ أي طائفة من الجن، ﴿ يَسْتَمِعُونَ القرآن فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالوا أَنصِتُواْ ﴾ أي استمعوا وهذا أدب منهم، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال :« قرأ رسول الله ﷺ سورة الرحمن حتى ختمها، ثم قال :» ما لي أراكم سكوتاً؟ للجِنُّ كانوا أحسن منكم رداً، ما قرأت عليهم هذه الآية من مرة ﴿ فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾ [ الرحمن : ١٣ ] إلاّ قالوا : ولا بشيء من آلائك أو نعمتك ربنا نكذب فلك الحمد « ». وقوله عزّ وجلّ :﴿ فَلَمَّا قُضِيَ ﴾ أي فرغ كقوله تعالى :﴿ فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة ﴾ [ الجمعة : ١٠ ]، ﴿ فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَّنَاسِكَكُمْ ﴾ [ البقرة : ٢٠٠ ]، ﴿ وَلَّوْاْ إلى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ ﴾ أي رجعوا إلى قومهم فأنذروهم ما سمعوه من رسول الله ﷺ كقوله جلّ وعلا :﴿ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدين وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رجعوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾ [ التوبة : ١٢٢ ]، وقد استدل بهذه الآية على أنه في الجن نُذُرٌ وليس فيهم رسل، فأما قوله تبارك وتعالى في الأنعام :﴿ يَامَعْشَرَ الجن والإنس أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ ﴾ [ الآية : ١٣٠ ] ؟ فالمراد من مجموع الجنسين فيصدق على أحدهما وهو الإنس، كقوله :﴿ يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ ﴾ [ الرحمن : ٢٢ ] أي أحدهما، ثم إنه تعالى فسر إنذار الجن لقومهم، فقال مخبراً عنهم :﴿ قَالُواْ ياقومنآ إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ موسى ﴾ ولم ذكروا عيسى، لأن عيسى عليه السلام أنزل عليه الإنجيل، فيه مواعظ وقليل من التحليل والتحريم، وهو في الحقيقة كالمتمم لشريعة التوراة، فالعمدة هو التوارة، فلهذا قالوا ﴿ أُنزِلَ مِن بَعْدِ موسى ﴾ ﴿ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾ أي من الكتب المنزلة على الأنبياء قبله، ﴿ يهدي إِلَى الحق ﴾ أي في الاعتقاد والإخبار، ﴿ وإلى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ في الأعمال فإن القرآن مشتمل على : خبر وطلب، فخبره صدق، وطلبه عدل كما قال تعالى :﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً ﴾ [ الأنعام : ١١٥ ]، وهكذا قالت الجن ﴿ يهدي إِلَى الحق ﴾ في الاعتقادات، ﴿ وإلى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ أي في العمليات ﴿ ياقومنآ أَجِيبُواْ دَاعِيَ الله ﴾ فيه دلالة على أنه تعالى أرسل محمداً ﷺ إلى الثقلين، الجن والإنس، وحيث دعاهم إلله تعالى وقرأ عليهم السورة التي فيها خطاب الفريقين وتكليفهم ووعدهم ووعيدهم وهي « سورة الرحمن »، ولهذا قال :﴿ أَجِيبُواْ دَاعِيَ الله وَآمِنُواْ بِهِ ﴾.
وقوله تعالى :﴿ يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ ﴾ قبل إن ﴿ مِّن ﴾ ههنا زائدة، وفيه نظر، وقيل إنها للتبعيض، ﴿ وَيُجِرْكُمْ مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ أي ويقيكم من عذابه الأليم، ومؤمنو الجن يدخلون الجنة كمؤمني الإنس، ويدل عليه قوله تعالى :﴿ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ﴾ [ الرحمن : ٤٦ ] فقد امتن تعالى على الثقلين بأن جعل جزاء محسنهم الجنة، ولم يرد نص صريح ولا ظاهر عن الشارع، أن مؤمني الجن لا يدخلون الجنة وإن إجيروا من النار، ولو صح لقلنا به.


الصفحة التالية
Icon