يخبر تعالى عن قدرته على الإنسان بأن علمه محيط بجميع أموره، حتى إنه تعالى يعلم ما توسوس به نفسه من الخير والشر، وقد ثبت في الصحيح عن رسول الله ﷺ أنه قال :« إن الله تعالى تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تقل أو تعمل » وقوله عزّ وجلّ :﴿ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد ﴾ يعني ملائكته تعالى أقرب إلى الإنسان من حبل وريده إليه، ومن تأوله على العلم فإنما فر لئلا يلزم حلول أو اتحاد، وهما منفيان بالإجماع تعالى الله وتقدس، ولكن اللفظ لا يقتضيه فإنه لم يقل : وأنا أقرب إليه من حبل الوريد، وإنما قال :﴿ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد ﴾ كما قال في المحتضر ﴿ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ ولكن لاَّ تُبْصِرُونَ ﴾ [ الواقعة : ٨٥ ] يعني ملائكته، فالملائكة أقرب إلى الإنسان من حبل وريده إليه، بإقدار الله جلا وعلا لهم على ذلك، فللملك لمَّة من الإنسان كما أن للشيطان لمة، ولهذا قال تعالى هاهنا ﴿ إِذْ يَتَلَقَّى المتلقيان ﴾ يعني الملكين اللذين يكتبان عمل الإنسان ﴿ عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال قَعِيدٌ ﴾ اي مترصد، ﴿ مَّا يَلْفِظُ ﴾ أي ابن آدم ﴿ مِن قَوْلٍ ﴾ أي ما يتكلم بكلمة ﴿ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾ أي إلاّ ولها من يرقبها، معد لذلك يكتبها، لا يترك كلمة ولا حركة، كما قال تعالى :﴿ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ﴾ [ الإنفطار : ١٠-١٢ ] وقد اختلف العلماء هل يكتب الملك كل شيء من الكلام، أو إنما يكتب ما فيه ثواب وعقاب على قولين : وظاهر الآية الأول لعموم قوله تبارك وتعالى :﴿ مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾. وقد روى الإمام أحمد، عن بلال بن الحارث المزني رضي الله عنه قال، قال رسول الله ﷺ :« إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله عزَّ وجلَّ له بها رضوانه إلى يوم يلقاه، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله تعالى عليه بها سخطه إلى يوم يلقاه » فكان علقمة يقول : كم من كلام قد منعنيه حديث بلال بن الحارث، وقال الأحنف بن قيس : صاحب اليمني يكتب الخير وهو أمين على صاحب الشمال، فإن أصاب العبد خطيئة قال له : أمسك، فإن استغفر الله تعالى نهاه أن يكتبها وإن أبى كتبها، وقال الحسن البصري، وتلا هذه الآية ﴿ عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال قَعِيدٌ ﴾ : يا ابن آدم بسطت لك صحيفة، ووكل بك ملكان كريمان أحدهما عن يمينك والآخر عن شمالك، فأما الذي عن يمينك فيحفظ حسناتك، وأما الذي عن يسارك فيحفظ سيئاتك، فاعمل ما شئت، أقلل أو أكثر، حتى إذا مت طويت صحيفتك وجعلت في عنقك معك في قبرك، حتى تخرج يوم القيامة، فعند ذلك يقال لك :


الصفحة التالية
Icon