يقول تعالى ذاماً لمن تولى عن طاعة الله ﴿ فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صلى * ولكن كَذَّبَ وتولى ﴾ [ القيامة : ٣١-٣٢ ]، ﴿ وأعطى قَلِيلاً وأكدى ﴾ قال ابن عباس : أطاع قليلاً ثم قطعه، قال عكرمة : كمثل القوم إذا كانوا يحفرون بئراً فيجدون في أثناء الحفر صخرة تمنعهم من تمام العمل، فيقولون : أكدينا ويتركون العمل، وقوله تعالى :﴿ أَعِندَهُ عِلْمُ الغيب فَهُوَ يرى ﴾ أي أعند هذا الذي أمسك يده خشية الإنفاق، وقطع معروفه، أعنده علم الغيب أنه سينفد ما في يده حتى أمسك عن معروفه فهو يرى ذلك عياناً؟ أي ليس الأمر كذلك، وإنما أمسك عن الصدقة والبر والصلة بخلاً وشحاً وهلعاً، ولهذا جاء ي الحديث :« أنفق بلالاً، ولا تخش من ذي العرش إقلالاً »، وقد قال الله تعالى :﴿ وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرازقين ﴾ [ سبأ : ٣٩ ]، وقوله تعالى :﴿ أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ موسى * وَإِبْرَاهِيمَ الذي وفى ﴾ ؟ أي بلّغ جميع ما أمر به، قال ابن عباس :﴿ وفى ﴾ لله بالبلاغ، وقال سعيد بن جبير :﴿ وفى ﴾ ما أمر به، وقال قتادة :﴿ وفى ﴾ طاعة الله وأدى رسالته إلى خلقه، وهذا القول هو اختيار ابن جرير وهو يشمل الذي قبله، ويشهد له قوله تعالى :﴿ وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً ﴾ [ البقرة : ١٢٤ ] فقام بجميع الأوامر، وترك جميع النواهي، وبلغ الرسالة على التمام والكمال، فاستحق بهذا أن يكون للناس إماماً يقتدى به. قال الله تعالى :﴿ ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ اتبع مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ المشركين ﴾ [ النحل : ١٢٣ ]. روى ابن حاتم، عن أبي أمامة قال :« تلا رسول الله ﷺ هذه الآية ﴿ وَإِبْرَاهِيمَ الذي وفى ﴾ قال :» أتدري ما وفّى «؟ قلت : الله ورسوله أعلم، قال :» وفّى عمل يومه بأربع ركعات من أول النهار « » وعن سهل بن معاذ بن أنَس، عن أبيه، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال :« ألا أخبركم لم سمى الله تعالى إبراهيم خليله الذي وفَى؟ إنه كان يقول كلما أصبح وأمسى :﴿ فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ ﴾ » [ الروم : ١٧ ] حتى ختم الآية.
ثم شرع تعالى يبيّن ما كان أوحاه في صحف إبراهيم وموسى فقال :﴿ أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى ﴾ أي كل نفس ظلمت نفسها بكفر أو شيء من الذنوب، فإنما عليها وزرها لا يحمله عنها أحد، كما قال :﴿ وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إلى حِمْلِهَا لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قربى ﴾ [ فاطر : ١٨ ]، ﴿ وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى ﴾ أي كما لا يحمل عليه وزر غيره، كذلك لا يحصل من الأجر إلا ما كسب هو لنفسه، ومن هذه الآية الكريمة استنبط الشافعي رحمه الله، أن القراءة لا يصل إهداء ثوابها إلى الموتى، لأنه ليس من عملهم ولا كسبهم، ولهذا لم يندب إليه رسول الله ﷺ أمته ولا حثهم عليه، ولم ينقل ذلك عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم، ولو كان خيراً لسبقونا إليه، فأما الدعاء والصدقة فذاك مجمع على وصولهما ومنصوص من الشارع عليهما، وأما الحديث الذي رواه مسلم في « صحيحه » عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ﷺ :