ولهذا قال :﴿ فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ فانتهى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى الله ﴾ أي من بلغه نهي الله عن الربا فانتهى حال وصول الشرع إليه فله ما سلف من المعاملة، لقوله :﴿ عَفَا الله عَمَّا سَلَف ﴾ [ المائدة : ٩٥ ]. وكما قال النبي ﷺ يوم فتح مكة :« وكل ربا في الجاهلية موضوع تحت قدميّ هاتين وأول ربا أضع ربا العباس »، ولم يأمرهم برد الزيادات المأخوذة في حال الجاهلية بل عفا عما سلف كما قال تعالى :﴿ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى الله ﴾. قال سعيد بن جبير والسُّدي :﴿ فَلَهُ مَا سَلَفَ ﴾ ما كان أكل من الربا قبل التحريم، وقال ابن أبي حاتم عن أم يونس العالية بنت أبقع، أن عائشة زوج النبي ﷺ قالت لها ( أم بحنة ) أم ولد زيد بن أرقم : يا أم المؤمنين أتعرفين زيد بن أرقم؟ قالت : نعم، قالت : فإني بعته عبداً إلى العطاء بثمانمائة، فاحتاج إلى ثمنه فاشتريته قبل محل الأجل بستمائة، فقالت : بئس ما شَرَيْتِ، وبئس ما اشتريت أبلغي زيداً أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله ﷺ، قد بطل إن لم يتب. قالت : فقلت : أرأيت إن تركت المائتين وأخذت الستمائة؟ قالت : نعم :﴿ فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ فانتهى فَلَهُ مَا سَلَفَ ﴾، وهذا الأثر مشهور. وهو دليل لمن حرم ( مسألة العينة ) مع ما جاء فيها من الأحاديث المذكورة المقررة في كتاب الأحكام ولله الحمد والمنة.
ثم قال تعالى :﴿ وَمَنْ عَادَ ﴾ أي إلى الربا ففعله بعد بلوغه نهي الله عنه فقد استوجب العقوبة وقامت عليه الحجة، ولهذا قال :﴿ فأولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾، وقد قال أبو داود، عن جابر قال : لما نزلت :﴿ الذين يَأْكُلُونَ الربا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الذي يَتَخَبَّطُهُ الشيطان مِنَ المس ﴾ قال رسول الله ﷺ :« من لم يذر المخابرة فليؤذن بحرب من الله ورسوله »، وإنما حرمت ( المخابرة ) وهي المزارعة ببعض ما يخرج من الأرض، و ( المزابنة ) وهي اشتراء الرطب في رؤوس النخل بالتمر على وجه الأرض، و ( المحاقلة ) وهي اشتراء الحب في سنبله في الحقل بالحب على وجه الأرض، إنما حرمت هذه الأشياء وما شاكلها حسماً لمادة الربا، لأنه لا يعلم التساوي بين الشيئين قبل الجفاف، ولهذا قال الفقهاء : الجهل بالمماثلة كحقيقة المفاضلة، ومن هذا حرموا أشياء بما فهموا من تضييق المسالك المفضية إلى الربا والوسائل الموصلة إليه، وتفاوت نظرهم بحسب ما وهب الله لكل منهم من العلم، وقد قال تعالى :﴿ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ﴾ [ يوسف : ٧٦ ].
وباب الربا من أشكل الأبواب على كثير من أهل العلم، وقد قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه :( ثلاث وددت أن رسول الله ﷺ عهد إلينا فيهن عهداً ننتهي إليه : الجد، والكلالة، وأبواب من أبواب الربا )، يعني بذلك بعض المسائل التي فيها شائبة الربا، والشريعة شاهدة بأن كل حرام فالوسيلة إليه مثله، لأن ما أفضى إلى الحرام حرام، كما أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وقد ثبت في الصحيحين عن النعمان بن بشير قال : سمعت رسول الله ﷺ يقول :