وأما إن أريد بالتأويل المعنى الآخر : وهو التفسير والبيان والتعبير عن الشيء كقوله :﴿ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ ﴾ [ يوسف : ٣٦ ] أي بتفسيره، فإن أريد به هذا المعنى فالوقف على ﴿ والراسخون فِي العلم ﴾ لأنهم يعلمون ويفهمون ما خوطبوا به بهذا الاعتبار، وإن لم يحيطوا علماً بحقائق الأشياء على كنه ما هي عليه، وعلى هذا فيكون قوله :﴿ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ ﴾ حالاً منهم، وساغ هذا وإن يكون من المعطوف دون المعطوف عليه كقوله :﴿ لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ ﴾ [ الحشر : ٨ ] - إلى قوله - ﴿ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغفر لَنَا وَلإِخْوَانِنَا ﴾ [ الحشر : ١٠ ] الآية، وقوله تعالى :﴿ وَجَآءَ رَبُّكَ والملك صَفّاً صَفّاً ﴾ [ الفجر : ٢٢ ] أي وجاء الملائكة صفوفاً صفوفاً.
وقوله تعالى - إخباراً عنهم - أنهم يقولون آمنا به أي المتشابه ﴿ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ﴾ أي الجميع من المحكم والمتشابه حق وصدق، وكل واحد منهما يصدق الآخر ويشهد له، لأن الجميع من عند الله وليس شيء من عند الله بمختلف ولا متضاد، كقوله :﴿ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً ﴾ [ النساء : ٨٢ ]، ولهذا قال تعالى :﴿ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألباب ﴾ أي إنما يفهم ويعقل ويتدبر المعاني على وجهها أولو العقول السليمة والفهوم المستقيمة، وقد قال ابن أبي حاتم بسنده : حدَّثنا عبد الله بن يزيد - وكان قد أدرك أصحاب النبي ﷺ أنَساً وأبا أمامة وأبا الدرداء - أن رسول الله ﷺ سئل عن الراسخين في العلم فقال :« من برت يمينه، وصدق لسانه، واستقام قلبه، ومن عف بطنه وفرجه، فذلك من الراسخين في العلم »، وقال الإمام أحمد بسنده : سمع رسول الله ﷺ قوماً يتدارؤون فقال :« إنما هلك من كان قبلكم بهذا؛ ضربوا كتاب الله بعضه ببعض وإنما أنزل كتاب الله ليصدق بعضه بعضاً فلا تكذبوا بعضه ببعض. فما علمتم منه فقولوا به، وما جهلتم فكلوه إلى عالمه ».
وعن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال :« نزل القرآن على سبعة أحرف، والمراء في القرآن كفر - قالها ثلاثاً - ما عرفتم منه فاعملوا به وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه جل جلاله » وقال ابن المنذر في تفسيره عن نافع بن يزيد قال : الراسخون في العلم المتواضعون لله المتذللون لله في مرضاته، لا يتعاظمون على من فوقهم ولا يحقرون من دونهم. ثم قال تعالى عنهم مخبراً أنهم دعوا ربهم قائلين :﴿ رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا ﴾ أي لا تملها عن الهدى بعد إذ أقمتها عليه، ولا تجعلنا كالذين في قلوبهم زيغ، الذين يتبعون ما تشابه من القرآن، ولكن ثبتنا على صراطك المستقيم، ودينك القويم. ﴿ وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنْكَ رَحْمَةً ﴾ تثبت بها قلوبنا، وتجمع بها شملنا، وتزيدنا بها إيماناً وإيقاناً ﴿ إِنَّكَ أَنْتَ الوهاب ﴾.


الصفحة التالية
Icon