قال السدي : لما ضرب الله هذين المثلين للمنافقين يعني قوله تعالى ﴿ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الذي استوقد نَاراً ﴾ [ البقرة : ١٧ ] وقوله :﴿ أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السمآء ﴾ [ البقرة : ١٩ ] الآيات الثلاث قال المنافقون : الله أعلى وأجل من أن يضرب هذه الأمثال فأنزل الله هذه الآية إلى قوله تعالى :﴿ هُمُ الخاسرون ﴾، وقال قتادة : لما ذكر الله تعالى العنكبوت والذباب قال المشركون : ما بال العنكبوت والذباب يذكران؟ فأنزل الله :﴿ إِنَّ الله لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ﴾ أي أن الله لا يستحيي من الحق أن يذكر شيئا مما قلَّ أو كَثُر، وإن الله حين ذكر في كتابه الذباب العنكبوت قال أهل الضلالة : ما أراد الله من ذكر هذا؟ فأنزل الله :﴿ إِنَّ الله لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ﴾.
ومعنى الآية أنه تعالى أخبر أنه لا يستحيي أي لا يستنكف، وقيل : لا يخشى أن يضرب مثلاً ما، أيّ مثلٍ كان بأي شيء كان صغيراً كان أو كبيراً و ( ما ) هاهنا للتقليل، وتكون بعوضة منصوبة على البدل، كما تقول : لأضربنَّ ضرباً ما، فيصدق بأدنى شيء أو تكون ( ما ) نكرة موصوفة ببعوضة، ويجوز أن تكون بعوضة منصوبة بحذف الجار، وتقدير الكلام :« إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بين بعوضة إلى ما فوقها » وهذا الذي اختاره الكسائي والفراء.
وقوله تعالى :﴿ فَمَا فَوْقَهَا ﴾ فيه قولان : أحدهما : فما دونها في الصغر والحقارة، كما إذا وصف رجل باللؤم والشح فيقول السامع نعم وهو فوق ذلك - يعني فيما وصفت - وهذا قول أكثر المحققين، وفي الحديث :« لو أن الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة لما سقى كافراً منها شربة ماء »، والثاني فما فوقها لما هو أكبر منها لأنه ليس شيء أحقر ولا أصغر من البعوضة وهذا قول قتادة بن دعامة واختيار بن جرير فإنه يؤيده ما رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله ﷺ قال :« ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها إلا كتب له بها درجة ومحيت عنه بها خطيئة » فأخبر أنه لا يستصغر شيئا يضرب به مثلاً ولو كان في الحقارة والصغر كالبعوضة، فكما لا يستنكف عن خلقها كذلك لا يستنكف من ضرب المثل بها، كما ضرب المثل بالذباب والعنكبوت في قوله :﴿ إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ اجتمعوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذباب شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطالب والمطلوب ﴾ [ الحج : ٧٣ ].
وقال :﴿ مَثَلُ الذين اتخذوا مِن دُونِ الله أَوْلِيَآءَ كَمَثَلِ العنكبوت اتخذت بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ البيوت لَبَيْتُ العنكبوت لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ﴾ [ العنكبوت : ٤١ ] وقال تعالى :﴿ ضَرَبَ الله مَثَلاً عَبْداً مَّمْلُوكاً لاَّ يَقْدِرُ على شَيْءٍ ﴾


الصفحة التالية
Icon