يقول جلّ وعلا :﴿ إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله ﴾ في قدرة الله حيث خلقه من غير أب ﴿ كَمَثَلِ ءَادَمَ ﴾ حيث خلقه من غير أب ولا أم، بل ﴿ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴾. فالذي خلق آدم من غير أب قادر على أن يخلق عيسى بطريق الأولى والأحرى، وإن جاز ادعاء البُنُوَّة في عيسى لكونه مخلوقاً من غير أب فجواز ذلك في آدم بالطريق الأولى، ومعلوم بالإتفاق أن ذلك باطل، فدعواهم في عيسى أشد بطلاناً وأظهر فساداً، ولكن الرب جل جلاله أراد أن يظهر قدرته لخلقه حين خلق آدم لا من ذكر ولا من أنثى، وخلق حواء من ذكر بلا أنثى، وخلق عيسى من أنثى بلا ذكر، كما خلق بقية البرية من ذكر وأنثى، ولهذا قال تعالى في سورة مريم :﴿ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلْنَّاسِ ﴾ [ الآية : ٢١ ]، وقال هاهنا :﴿ الحق مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُنْ مِّن الممترين ﴾ أي هذا هو القول الحق في عيسى الذي لا محيد عنه ولا صحيح سواه، وماذا بعد الحق إلا الضلال! ثم قال تعالى آمراً رسوله ﷺ أن يباهل من عاند الحق في أمر عيسى بعد ظهور البيان :﴿ فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ العلم فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وأَنْفُسَكُمْ ﴾ أي نحضرهم في حال المباهلة ﴿ ثُمَّ نَبْتَهِلْ ﴾ أي نلتعن ﴿ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ الله عَلَى الكاذبين ﴾ أي منا ومنكم. يحاجون في عيسى ويزعمون فيه ما يزعمون من البُنُوَّة والإلهية، فأنزل الله صدر هذه السورة رداً عليهم. قال ابن إسحاق في سيرته : وقدم على رسول الله ﷺ وفد نصارى من نجران ستون راكباً، فيهم أربعة عشر رجلاً من أشرافهم يؤول أمرهم إليهم فدخلوا عليه مسجده حين صلى العصر، عليهم ثياب الحبرات جبب وأردية في جمال رجال بني الحارث بن كعب قال - يقول من رآهم من أصحاب النبي ﷺ ما رأينا بعدهم وفداً مثلهم - وقد حانت صلاتهم فقاموا في مسجد رسول الله ﷺ، فقال رسول الله ﷺ :« دعوهم »، فصلوا إلى المشرق. قال : فكلّم رسول الله ﷺ منهم أبو حارثة بن علقمة، والعاقب عبد المسيح، والأيهم - وهم من النصرانية على دين الملك مع اختلاف أمرهم - يقولون : هو الله، ويقولون : هو ولد الله، ويقولون : هو ثالث ثلاثة، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً، وكذلك النصرانية فهم يحتجون في قولهم هو الله بأنه كان يحيي الموتى ويبرىء الأكمه والأبرص والأسقام ويخبر بالغيوب، ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيراً، وذلك كله بأمر الله.


الصفحة التالية
Icon