وليجعله الله آية للناس، ويحتجون في قولهم بأنه ابن الله يقولون : لم يكن له أب يعلم، وقد تكلم في المهد بشيء لم يصنعه أحد من بني آدم قبله، ويحتجون على قولهم بأنه ثالث ثلاثة بقول الله تعالى : فعلنا، وأمرنا، وخلقنا، وقضينا، فيقولون لو كان واحداً ما قال إلا فعلت وأمرت وقضيت وخلقت، ولكنه هو عيسى ومريم - تعلى الله وتقدس وتنزه عما يقول الظالمون والجاحدون علواً كبيراً - وفي كل ذلك من قولهم : قد نزل القرآن.
فلما كلمه الحبران قال لهما رسول الله ﷺ :« أسلما »، قال : قد أسلمنا. قال « إنكما لم تسلما فأسلما » قالا : بلى، قد أسلمنا قبلك، قال :« كذبتما يمنعكما من الإسلام ادعاؤكما لله ولداً وعبادتكما الصليب وأكلكما الخنزير » قالا : فمن أبوه يا محمد؟ فصمت رسول الله ﷺ عنهما فلم يجبهما، فأنزل الله في ذلك من قولهم واختلاف أمرهم صدر سورة ( آل عمران ) إلى بضع وثمانين آية منها. ثم تكلم ابن إسحاق على تفسيرها إلى أن قال : فلما أتى رسول الله ﷺ الخبر من الله والفصل من القضاء بينه وبينهم، وأمر بما أمر به من ملاعنتهم إن ردوا ذلك عليه دعاهم إلى ذلك، فقالوا : يا أبا القاسم، دعنا ننظر في أمرنا، ثم نأتيك بما نريد أن نفعل فيما دعوتنا إليه، ثم انصرفوا عنه، ثم خلوا بالعاقب، وكان ذا رأيهم، فقالوا : يا عبد المسيح ماذا ترى؟ فقال : والله يا معشر النصارى لقد عرفتم أن محمداً لنبي مرسل، ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم، ولقد علمتم أنه ما لاعن قوم نبياً قط فبقي كبيرهم ولا نبت صغيرهم، وإنه للإستئصال منكم إن فعلتم، فإن كنتم أبيتم إلا إلف دينكم والإقامة على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم. فأتوا النبي ﷺ، فقالوا : يا أبا القاسم قد رأينا أن لا نلاعنك، ونتركك على دينك ونرجع على ديننا، ولكن ابعث معنا رجلاً من أصحابك ترضاه لنا يحكم بيننا في أشياء اختلفانا فيها في أموالنا فإنكم عندنا رضا، فقال رسول الله ﷺ :« ائتوني العشية أبعث معكم القوي الأمين »، فكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول : ما أحببت الإمارة قط حبي إياها يومئذٍ، رجاء أن أكون صاحبها، فرحت إلى الظهر مهجِّراً فلما صلى رسول الله ﷺ الظهر سلم، ثم نظر عن يمينه وشماله فجعلت أتطاول له ليراني، فلم يزل يلتمس ببصره حتى رأى أبا عبيدة بن الجراح فدعاه، فقال :« اخرج معهم فاقض بينهم بالحق فيما اختلفوا فيه »


الصفحة التالية
Icon