يخبر تعالى بامتنانه على بني آدم بتنويهه بذكرهم في الملأ الأعلى قبل إيجادهم بقوله :﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ ﴾ أي واذكر يا محمد إذ قال ربك للملائكة واقصص على قومك ذلك، ﴿ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً ﴾ أي قوما يخلف بعضهم بعضاً قرناً بعد قرن، وجيلاً بعد جيل، كما قال تعالى :﴿ هو الذي جعلكم خلائف الأرض ﴾ وقال :﴿ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَآءَ الأرض ﴾ [ النمل : ٦٢ ] وقال :﴿ وَلَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلاَئِكَةً فِي الأرض يَخْلُفُونَ ﴾ [ الزخرف : ٦٠ ] وليس المراد هاهنا بالخليفة آدم عليه السلام فقط كما يقوله طائفة من المفسرين، إذ لو كان ذلك لما حسن قول الملائكة :﴿ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدمآء ﴾ فإنهم أرادوا أن من هذا الجنس من يفعل ذلك، وكأنهم علموا ذلك بعلم خاص، أو بما فهموه من الطبيعة البشرية، فإنه أخبرهم أنه يخلق هذا الصنف من ﴿ صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ ﴾ [ الحجر : ٢٦ ] أو فهموا من الخليفة أنه الذي يفصل بين الناس ما يقع بينهم من المظالم ويردعهم عن المحارم والمآثم ( قاله القرطبي ). أو أنهم قاسوهم على من سبق كما سنذكر أقوال المفسرين في ذلك.
وقول الملائكة هذا ليس على وجه الاعتراض على الله ولا على وجه الحسد لبني آدم كما قد يتوهمه بعض المفسرين، وقد وصفهم الله تعالى بأنهم لا يسبقونه بالقول أي لا يسألونه شيئاً لم يأذن لهم فيه، وهاهنا لما أعلمهم بأنه سيخلق في الأرض خلقاً وقد تقدم إليهم أنهم يفسدون فيها فقالوا :﴿ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدمآء ﴾ ؟ الآية. وإنما هو سؤال استعلام واستكشاف عن الحكمة في ذلك، يقولون : يا ربنا ما الحكمة في خلق هؤلاء، مع أن منهم من يفسد في الأرض ويسفك الدماء؟ فإن كان المراد عبادتك فنحن نسبِّح بحمدك ونقدِّس لك أي نصلّي لك ولا يصدر منا شيء من ذلك، وهلا وقع الاقتصار علينا؟ قال الله تعالى مجيباً لهم عن هذا السؤال :﴿ إني أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾، أي إني أعلم من المصلحة الراجحة في خلق هذا الصنف على المفاسد التي ذكرتموها ما لا تعلمون أنتم، فإني سأجعل فيهم الأنبياء، وأرسل فيهم الرسل، ويوجد منهم الصديقون والشهداء والصالحون، والعُبَّاد والزهاد، والأولياء والأبرار، والمقربون، والعلماء العاملون، والخاشعون والمحبون له تبارك وتعالى، المتبعون رسله صلوات الله وسلامه عليهم.
وقيل : معنى قوله تعالى :﴿ إني أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ إني لي حكمة مفصلة في خلق هؤلاء والحالة ما ذكرتم لا تعلمونها، وقيل : إنه جواب ﴿ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ﴾ فقال :﴿ إني أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ أي من وجود إبليس بينكم وليس هو كما وصفتم أنفسكم به. وقيل : بل تضمن قولهم :﴿ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدمآء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ﴾، طلباً منهم أن يسكنوا الأرض بدل بني آدم، فقال الله تعالى ذلك :﴿ إني أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ من أن بقاءكم في السماء أصلح لكم وأليق بكم.


الصفحة التالية
Icon