هذه الآية الكريمة والتي بعدها، والآية التي هي خاتمة هذه السورة هن آيات علم الفرائض، وهو مستنبط من هذه الآيات الثلاث، ومن الأحاديث الواردة في ذلك مما هو كالتفسير لذلك، ولنذكر منها ما هو متعلق بتفسير ذلك، وأما تقرير المسائل ونصب الخلاف والأدلة، والحجاج بين الأئمة، فموضعه كتب الأحكام والله المستعان.
وقد ورد الترغيب في تعلم الفرائض، وهذه الفرائض الخاصة من أهم ذلك؛ روى أبو داود وابن ماجة عن عبد الله بن عمرو مرفوعاً :« العلم ثلاثة وما سوى ذلك فهو فضل : آية محكمة، أو سنّة قائمة، أو فريضة عادلة »، وعن أبي هريرة قال، قال رسول الله ﷺ :« تعلموا الفرائض وعلموه الناس فإنه نصف العلم، وهو ينسى، وهو أول شيء ينزع من أمتي » قال ابن عيينة : إنما سمي الفرائض نصف العلم لأنه يبتلى به الناس كلهم، وقال البخاري عند تفسيره هذه الآية :« عن جابر بن عبد الله قال : عادني رسول الله ﷺ وأبو بكر في بني سلمة ماشيين، فوجدني النبي ﷺ لا أعقل شيئاً، فدعا بماء فتوضأ منه ثم رش عليَّ فأفقت فقلت : ما تأمرني أن أصنع في مالي يا رسول الله، فنزلت :﴿ يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين ﴾ » ( حديث آخر ) عن جابر قال :« جاءت امرأة سعد بن الربيع إلى رسول الله ﷺ فقالت : يا رسول الله هاتان ابنتا سعد بن الربيع قتل أبوهما معك في يوم أُحد شهيداً، وإن عمهما أخذ مالهما فلم يدع لهما مالاً ولا ينكحان إلا ولهما مال، فقال :» يقضي الله في ذلك « فنزلت آية الميراث، فأرسل رسول الله ﷺ إلى عمهما فقال :» أعط ابنتي سعد الثلثين، وأمهما الثمن، وما بقي فهو لك « ».
فقوله تعالى :﴿ يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين ﴾ أي يأمركم بالعدل فيهم، فإن أهل الجاهلية كانوا يجعلون جميع الميراث للذكر دون الإناث، فأمر الله تعالى بالتسوية بينهم في أصل الميراث، وفاوت بين الصنفين، فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين، وذلك لاحتياج الرجل إلى مؤنة النفقة والكلفة، ومعاناة التجارة والتكسب، وتحمل المشاق فناسب أن يعطي ضعفي ما تأخذه الأنثى، وقد استنبط بعض الأذكياء من قوله تعالى :﴿ يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين ﴾ أنه تعالى أرحم بخلقه من الوالدة بولدها، حيث أوصى الوالدين بأولادهم، فعلم أنه أرحم بهم منهم. وقال البخاري عن ابن عباس : كان المال للولد، وكانت الوصية للوالدين؛ فنسخ الله من ذلك ما أحب فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين، وجعل للأبوين لكل واحد منهما السدس والثلث، وجعل للزوجة الثمن والربع، وللزوج الشطر والربع، وقال العوفي عن ابن عباس : لما نزلت الفرائض التي فرض الله فيها ما فرض للولد الذكر والأنثى والأبوين كرهها الناس أو بعضهم وقالوا : تعطى المرأة الربع أو الثمن، وتعطى الابنة النصف، ويعطى الغلام الصغير، وليس من هؤلاء أحد يقاتل القوم؛ ولا يحوز الغنيمة؛ اسكتوا عن هذا الحديث لعل رسول الله ﷺ ينساه؛ أو نقول له فيغير! فقالوا : يا رسول الله تعطى الجارية نصف ما ترك أبوها؛ وليست تركب الفرس؛ ولا تقاتل القوم، ويعطى الصبي الميراث وليس يغني شيئاً؛ وكانوا يفعلون ذلك في الجاهلية؛ لا يعطون الميراث إلا لمن قاتل القوم؛ ويعطونه الأكبر فالأكبر، فنزلت الآية.