ينهى تبارك وتعالى عباده المؤمنين عن أن يأكلوا أموال بعضهم بعضاً بالباطل، أي بأنواع المكاسب التي هي غير شرعية، كأنواع الربا والقمار وما جرى مجرى ذلك من سائر صنوف الحيل، وإن ظهرت في قلب الحكم الشرعي مما يعلم الله أن متعاطيها إنما يريد الحيلة على الربا، حتى قال ابن جرير، عن ابن عباس في الرجل يشتري من الرجل الثوب فيقول : إن رضيته أخذته وإلا رددت معه درهماً، قال : هو الذي قال الله فيه :﴿ لاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل ﴾. وعن علقمة بن عبد الله في الآية قال : إنها محكمة ما نسخت ولا تنسخ إلى يوم القيامة، وقال ابن عباس : لما أنزل الله :﴿ يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل ﴾ قال المسلمون : إن الله قد نهانا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل والطعام هو أفضل أموالنا، فلا يحل لأحد منا أن يأكل عند أحد فكيف للناس؟! فأنزل الله بعد ذلك :﴿ لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ ﴾ [ النور : ٦١، الفتح : ١٧ ] الآية.
وقوله تعالى :﴿ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ ﴾ الاستثناء منقطع كأنه يقول : لا تتعاطوا الأسباب المحرمة في اكتساب الأموال، لكن المتاجر المشروعة التي تكون عن تراض من البائع والمشتري فافعلوها، وتسببوا بها في تحصيل الأموال، كما قال تعالى :﴿ وَلاَ تَقْتُلُواْ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق ﴾ [ الأنعام : ١٥١، الإسراء : ٣٣ ]، وكقوله :﴿ لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت إِلاَّ الموتة الأولى ﴾ [ الدخان : ٥٦ ]، ومن هذه الآية الكريمة احتج الشافعي على أنه لا يصح البيع إلا بالقبول لأنه يدل على التراضي نصاً بخلاف المعاطاة فإنها قد لا تدل على الرضا، وخالف الجمهور في ذلك ( مالك وأبو حنيفة وأحمد ) فرأوا أن الأقوال كما تدل على التراضي، فكذلك الأفعال تدل في بعض المحال قطعاً، فصححوا بيع المعاطاة مطلقاً، ومنهم من قال : يصح في المحقرات وفيما يعده الناس بيعاً، وهو احتياط نظر من محققي المذهب والله أعلم. وقال مجاهد :﴿ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ ﴾ بيعاً أو عطاء يعطيه أحد أحداً، قال رسول الله ﷺ :« البيع عن تراض، والخيار بعد الصفقة، ولا يحل لمسلم أن يغش مسلماً » هذا حديث مرسل، ومن تمام التراضي إثبات خيار المجلس كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله ﷺ قال :« البيعان بالخيار ما لم يتفرقا »، وفي لفظ البخاري :« إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا »، وذهب إلى القول بمقتضى هذا الحديث أحمد والشافعي وأصحابهما وجمهور السلف والخلف، ومن ذلك مشروعية خيار الشرط بعد العقد إلى ثلاثة أيام، بحسب ما يتبين فيه حال البيع ولو إلى سنة في القرية ونحوها كما هو المشهور عن مالك رحمه الله، وصححوا بيع المعاطاة مطلقاً وهو قول في مذهب الشافعي، ومنهم من قال : يصح بيع المعاطاة في المحقرات فيما يعده الناس بيعاً، وهو اختيار طائفة من الأصحاب كما هو متفق عليه.


الصفحة التالية
Icon