وهذا يدل على استمرار تحريمها إلى آخر وقت كما هو مذهب طائفة من السلف. وقال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى :﴿ وَلاَ الشهر الحرام ﴾ يعني لا تستحلوا القتال فيه، واختاره ابن جرير أيضاً، وذهب الجمهور إلى أن ذلك منسوخ وأنه يجوز ابتداء القتال في الأشهر الحرم، واحتجوا بقوله تعالى :﴿ فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ﴾ [ التوبة : ٥ ] قالوا : فلم يستثن شهراً حراماً من غيره، وقد حكى الإمام أبو جعفر الإجماع على أن الله قد أحل قتال أهل الشرك في الأشهر الحرم وغيرها من شهور السنة.
وقوله تعالى :﴿ وَلاَ الهدي وَلاَ القلائد ﴾ يعني لا تتركوا الإهداء إلى البيت الحرام، فإن فيه تعظيم شعائر الله ولا تتركوا تقليدها في أعناقها لتتميز به عما عداها من الأنعام، وليعلم أنها هدي إلى الكعبة فيجتنبها من يريدها بسوء، وتبعث من يراها على الإتيان بمثلها، فإن من دعا إلى هدي كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ولهذا لما حج رسول الله ﷺ بات بذي الحليفة وهو وادي العقيق، فلما أصبح طاف على نسائه وكن تسعاً، ثم اغتسل وتطيب وصلى ركعتين، ثم أشعر هديه وقلده، وأهلَّ للحج والعمرة، وكان هديه إبلاً كثيرة تنيف على الستين من أحسن الأشكال والألوان؛ كما قال تعالى :﴿ ذلك وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ الله فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى القلوب ﴾ [ الحج : ٣٢ ]. وقال بعض السلف : إعظامها استحسانها واستسمانها، قال علي بن أبي طالب : أمرنا رسول الله ﷺ أن نستشرف العين والأذن. « رواه أهل السنن »، وقال مقاتل بن حيان قوله :﴿ وَلاَ القلائد ﴾ فلا تستحلوها، وكان أهل الجاهلية إذا خرجوا من أوطانهم في غير الأشهر الحرم قلدوا أنفسهم بالشعر والوبر، وتقلد مشركو الحرم من لحاء شجره فيأمنون به. وقوله تعالى :﴿ ولا آمِّينَ البيت الحرام يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً ﴾ أي ولا تستحلوا قتال القاصدين إلى بيت الله الحرام الذي من دخله كان آمناً، وكذا من قصده طالباً فضل الله، وراغباً في رضوانه فلا تصدوه ولا تمنعوه ولا تهيجوه، قال مجاهد وعطاء في قوله :﴿ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ ﴾ يعني بذلك التجارة، وهذا كما تقدم في قوله :﴿ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ ﴾ [ البقرة : ١٩٨ ] وقوله :﴿ وَرِضْوَاناً ﴾ قال ابن عباس : يترضون الله بحجهم، وقد ذكر عكرمة والسدي وابن جرير أن هذه الآية نزلت في ( الحطيم بن هند البكري )، كان قد أغار على سرح المدينة، فلما كان من العام المقبل اعتمر إلى البيت، فأراد بعض الصحابة أن يعترضوا في طريقه إلى البيت، فأنزل الله :﴿ ولا آمِّينَ البيت الحرام يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً ﴾.


الصفحة التالية
Icon