لما ذكر تعالى ما حرمه على عباده المؤمنين من الخبائث وما أحله لهم من الطيبات قال بعده :﴿ اليوم أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات ﴾، ثم ذكر حكم ذبائح أهل الكتابين من اليهود والنصارى، فقال :﴿ وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب حِلٌّ لَّكُمْ ﴾، قال ابن عباس : يعني ذبائحهم، وهذا أمر مجمع عليه بين العلماء، إن ذبائحهم حلال للمسلمن لأنهم يعتقدون تحريم الذبح لغير الله، ولا يذكرون على ذبائحهم إلاّ اسم الله، وإن اعتقدوا فيه تعالى ما هو منزه عنه تعالى وتقدس. وقد ثبت في الصحيح عن عبد الله بن مغفل قال : أدلي بجراب من شحم يوم خيبر، فحضنته، وقلت : لا أعطي اليوم من هذا أحداً والتفت فإذا النبي ﷺ يتبسم، وفي الصحيح أن أهل خيبر أهدوا لرسول الله ﷺ شاة مصلية وقد سموا ذراعها، وكان يعجبه الذراع، فتناوله فنهش منه نهشة، فأخبره الذراع أنه مسموم فلفظه، وأثر ذلك في ثنايا رسول الله ﷺ وفي أبهره، وأكل معه منها بشر بن البراء بن معرور فمات، فقتل اليهودية التي سمتها، وكان اسمها زينب، وقال ابن أبي حاتم، عن مكحول قال : أنزل الله :﴿ وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ ﴾ [ الأنعام : ١٢١ ]، ثم نسخه الرب عزَّ وجلَّ ورحم المسلمين فقال :﴿ اليوم أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب حِلٌّ لَّكُمْ ﴾ فنسخها بذلك وأحل طعام أهل الكتاب، وفي هذا الذي قاله مكحول رحمه الله نظر، فإنه لا يلزم من إباحته طعام أهل الكتاب إباحة أكل ما لم يذكر اسم الله عليه لأنهم يذكرون اسم الله على ذبائحهم وقرابينهم وهم متعبدون بذلك، ولهذا لم يبح ذبائح من عداهم من أهل الشرك ومن شابههم لأنهم لم يذكرا اسم الله على ذبائحهم، بل ولا يتوقفون فيما يأكلونه من اللحم على ذكاة، بل يأكلون الميتة بخلاف أهل الكتابين ومن شاكلهم من السامرة والصائبة ومن يتمسك بدين إبراهيم وشيث وغيرهما من الأنبياء على أحد قولي العلماء، ونصارى العرب كبني تغلب وتنوخ وبهرا وجذام ولخم وعاملة ومن أشبههم، لا تؤكل ذبائحهم عند الجمهور.
وقال أبو جعفر بن جرير عن محمد بن عبيدة قال، قال علي : لا تأكلوا ذبائح بني تغلب لأنهم إنما يتمسكون من النصرانية بشرب الخمر، وكذا قال غير واحد من الخلف والسلف. وقوله تعالى :﴿ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ ﴾ أي ويحل لكم أن تطعموهم من ذبائحكم، وليس هذا إخباراً عن الحكم عندهم، اللهم إلاّ أن يكون خبراً عما أمروا به من الأكل من كل طعام ذكر اسم الله عليه، سواء كان من أهل ملتهم أو غيرها، والأول أظهر في المعنى أي ولكم أن تطعموهم من ذبائحكم كما أكلتم من ذبائحهم، وهذا من باب المكافأة والمقابلة والمجازاة، كما ألبس النبي ﷺ ثوبه لعبد الله بن أبي بن سلول حين مات ودفنه فيه، قالوا : لأنه كان قد كسا العباس حين قدم المدينة ثوبه، فجازاه النبي ﷺ بذلك، فأما الحديث الذي فيه :« لا تصحب إلا مؤمناً ولا يأكل طعامك إلاّ تقي » فمحمول على الندب والاستحباب، والله أعلم.