« أشيروا عليَّ أيها المسلمون » وما يقول ذلك إلاّ ليستعلم ما عند الأنصار لأنهم كانوا جمهور الناس يومئذ، فقال سعد بن معاذ : كأنك تعرض بنا يا رسول الله فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلَّف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً، إنا لصبرٌ في الحرب، صُدق في اللقاء لعل الله أن يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله. فسُرَّ رسول الله ﷺ بقول سعد ونشطه ذلك. وممن أجاب يومئذ ( المقداد بن عمرو الكندي ) رضي الله عنه، كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : لقد شهدت من المقداد مشهداً، لأن أكون أنا صاحبه أحب إليّ مما عدل به، أتى رسول الله ﷺ وهو يدعو على المشركين فقال : والله يا رسول الله لا نقول كما قالت بنوا إسرائيل لموسى ﴿ فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فقاتلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ﴾ ولكنا نقاتل عن يمينك وعن يسارك ومن بين يديك ومن خلفك، فرأيت وجه رسول الله ﷺ أشرق لذلك وسره ذلك، وهكذا رواه البخاري في المغازي، ولفظه في كتاب التفسير عن عبد الله قال، قال المقداد يوم بدر يا رسول الله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى ﴿ فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فقاتلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ﴾، ولكن امض ونحن معك. فكأنه سري عن رسول الله ﷺ.
وقوله تعالى :﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فافرق بَيْنَنَا وَبَيْنَ القوم الفاسقين ﴾ يعني لما نكل بنو إسرائيل عن القتال غضب عليهم موسى عليه السلام، وقال داعياً عليهم :﴿ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي ﴾ أي ليس أحد يطيعني منهم فيمتثل أمر الله ويجيب إلى ما دعوت إليه إلا أنا وأخي هارون ﴿ فافرق بَيْنَنَا وَبَيْنَ القوم الفاسقين ﴾ قال ابن عباس : يعني اقض بيني وبينهم، وكذا قال الضحاك : اقض بيننا وبينهم، وافتح بيننا وبينهم، وقال غيره : افرق افصل بيننا وبينهم، كما قال الشاعر :

يا رب فافرق بينه وبيني أشد ما فرَّقت بين اثنين
وقوله تعالى :﴿ قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأرض ﴾ الآية، لما دعا عليهم موسى عليه السلام حين نكلوا عن الجهاد حكم الله بتحريم دخولها عليهم قدر مدة أربعين سنة، فوقعوا في التيه يسيرون دائماً لا يهتدون للخروج منه. وفيه كانت أمور عجيبة وخوارق كثيرة : من تظليلهم بالغمام، وإنزال المن والسلوى عليهم، ومن إخراج الماء الجاري من صخرة صماء تحمل معهم على دابة، فإذا ضربها موسى بعصاه انفجرت من ذلك الحجر اثنتا عشرة عيناً : تجري لكل شعب عين، وغير ذلك من المعجزات التي أيد الله بها موسى بن عمران.


الصفحة التالية
Icon