فجاء القرآن على أسلوب أبدع مما كانوا يعهدون وأعجب، وهو كونه كتاب تشريع وتأديب وتعليم كان حقيقا بأن يودع فيه من المعاني والمقاصد أكثر ما تحتمله الألفاظ، في أقل ما يمكن من المقدار، ليحصل تمام المقصود من الإرشاد الذي جاء لأجله في جميع نواحي الهدى، فمعتاد البلغاء إيداع المتكلم معنى يدعوه إليه غرض كلامه وترك غيره. والقرآن أودع من المعاني ما يحتاج السامعون إلى علمه وكل ما له حظ في البلاغة سواء كانت متساوية أم متفاوتة، إذا كان المعنى الأعلى مقصودا وكان ما هو أدنى منه مرادا معه لا مرادا دونه سواء كانت دلالة التركيب عليها متساوية في الاحتمال والظهور أم كانت متفاوتة بعضها أظهر من بعض ولو أن تبلغ حد التأويل وهو حمل اللفظ على المعنى المحتمل المرجوح، أما إذا تساوى المعنيان فالأمر أظهر، مثل قوله تعالى: ﴿ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا ﴾ أي ما تيقنوا قتله ولكن توهموه، أو ما أيقن النصارى – الذين اختلفوا في قتل عيسى - عليه السلام - علم ذلك يقينا بل فهموه خطأ ففي اللفظ معنيان. وقد تكثر المعاني بإنزال لفظ الآية على وجهين أو أكثر تكثيرا للمعاني مع إيجاز اللفظ وهو من وجوه الإعجاز، ومثال ذلك قوله تعالى: ﴿ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ ﴾ وقرأ الحسن البصري وعدها أباه، فنشأ احتمال فيمن هو الواعد.
وقد جعل الله القرآن كتاب الأمة كلها وفيه هديها، ودعاهم إلى تدبره، وبذل الجهد في استخراج معانيه في غير ما آية كقوله تعالى: ﴿ فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ﴾ وقوله: ﴿ وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوْ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ﴾ وقوله: ﴿ بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الذِينَ أُوتُوا العِلْمَ ﴾ وغير ذلك.


الصفحة التالية
Icon