؟ فأما الجهة الأولى فمرجعها إلى ما يسمى بالطرف الأعلى من البلاغة والفصاحة، وهو المصطلح على تسميته حدَّ الإعجاز، فلقد كان منتهى التنافس عند العرب التفوق في البلاغة والفصاحة، ولقد تصدى علماء البلاغة في هذا الصدد إلى الموازنة بين ما ورد في القرآن من ضروب البلاغة وبين أبلغ ما حفظ عن العرب من ذلك مما عُدّ في أقصى درجاتها. والدليل الإجمالي على ذلك هو أن الله تعالى تحدى بلغاءهم أن يأتوا بسورة من مثله، فلم يتعرض واحد إلى معارضته، ولما سمع الوليد بن المغيرة قوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ وَالإِحْسَانِ ﴾ الآية، قال:" والله إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أسفله لمغدق وإن أعلاه لمثمر وما هو بكلام بشر". وذكر أبو عبيدة أن أعرابيا سمع رجلا يقرأ: ﴿ فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرْ ﴾ فسجد وقال: سجدت لفصاحته، يقول ابن عاشور موضع التأثير في هذه الآية هو كلمة اصدع في إبانتها عن الدعوة والجهر بها والشجاعة فيها، وكلمة بما تؤمر في إيجازها وجمعها. وسمع آخر رجلا يقرأ: ﴿ فَلَمَّا اِسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا ﴾ فقال أشهد أن مخلوقا لا يقدر على مثل هذا الكلام.
وحسن التقسيم من المحسنات البديعة، ففي نظم فاتحة الكتاب من خصوصية التقسيم إذ قسم الفاتحة إلى ثلاثة أقسام (١) [٢٤] مع ما تضمنه ذلك التقسيم من محسن التخلص في قوله " فإذا قال : إياك نعبد وإياك نستعين، قال " هذا بيني وبين عبدي" إذ كان ذلك مزيجا من القسمين الذي قبله والذي بعده.


الصفحة التالية
Icon