وأما ما يعرض للهجات العرب فذلك شيء تفاوتت في مضماره جياد ألسنتهم وكان المجلى فيها لسانَ قريش ومن حولها من القبائل، وهو مما فُسّر به حديث :" أنزل القرآن على سبعة أحرف"، ولذلك جاء القرآن بأحسن اللهجات وأخفّها وتجنب المكروه من اللهجات، وهذا من أسباب تيسير تلقي الأسماع له ورسوخه فيها، قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرْ ﴾.
؟ وأما الجهة الثانية هي ما أبدعه القرآن من أفانين التصرف في أساليب الكلام البليغ. وأن أدب العرب إما شعر وإما نثر، وأن من أعظم الأساليب التي خالف بها القرآن العرب أنه جاء في نظمه بأسلوب جامع بين مقصدي : الموعظة والتشريع، فكان نظمه يمنح السامعين ما يحتاجون أن يعلموه وهو في هذا النوع يشبه خطبهم، وكان في مطاوي معانيه ما يَستخرج منه العالم الخبير أحكاما كثيرة في التشريع والآداب وغيرها.
ومن أساليبه التفنن وهو بداعة تنقلاته من فن إلى فن بطرائق الاعتراض والتنظير والتذييل والإتيان بالمترادفات عند التكرير تجنبا لثقل تكرير الكلِم، وكذلك الإكثار من أسلوب الالتفات المعدود من أعظم أساليب التفنن عند بلغاء العربية، وهو في القرآن كثير، ثم الرجوع إلى المقصود فيكون السامعون في نشاط متجدد بسماعهم وإقبالهم عليه. وفي هذا التفنن والتنقل مناسبات بين المنتقَل منه والمنتقَل إليه هي في منتهى الرقة والبداعة بحيث لا يشعر سامعه وقارئه بانتقاله إلا عند حصوله. وفي تناسب أقواله وتفنن أغراضه مجابة للتيسير المصرح به في الآية: ﴿ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرْ ﴾. وقوله :﴿ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ ﴾ فقوله ما تيسر يقتضي الاستكثار بقدر التيسُّر.


الصفحة التالية
Icon