الثالثة: آيات القرآن قسمان: محكمات ومتشابهات كما دلت عليه الآية الكريمة، فإِن قيل: كيف يمكن التوفيق بين هذه الآية وبين ما جاء في سورة هود أن القرآن كلَّه محكم ﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ﴾ [الآية: ١] وما جاء في الزمر أن القرآن كلَّه متشابهٌ ﴿نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث كِتَاباً مُّتَشَابِهاً﴾
[الآية: ٢٣] ؟! فالجواب أنه لا تعارض بين الآيات إذ كل آية لها معنى خاص غير ما نحن في صدده فقوله ﴿أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ﴾ [هود: ١] بمعنى أنه ليس به عيب، وأنه كلامٌ حق فصيح الألفاظ، صحيح المعاني وقوله ﴿كِتَاباً مُّتَشَابِهاً﴾ [الزمر: ٢٣] بمعنى أنه يشبه بعضه بعضاً في الحُسن ويصدق بعضه بعضاً، فلا تعارض بين الآيات.
الرابعة: روى البخاري عن سعيد بن جبير أن رجلاً قال لابن عباس: إِني أجد في القرآن أشياءً تختلف عليًّ، قال: ما هو؟ قال قوله تعالى: ﴿فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ﴾ [المؤمنون: ١٠١] وقال: ﴿وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ﴾ [الصافات: ٢٧] وقال تعالى: ﴿وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً﴾ [النساء: ٤٢] وقال ﴿والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: ٢٣] فقد كتموا في هذه الآية، وفي النازعات ذكرَ خلق السماء قبل خلق الأرض، وفي فصِّلت ذَكَر خلق الأرض قبل خلق السماء، وقال: ﴿وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً﴾ [النساء: ٩٦] ﴿وَكَانَ الله عَزِيزاً حَكِيماً﴾ [النساء: ١٥٨] ﴿وَكَانَ الله سَمِيعاً بَصِيراً﴾ [النساء: ١٣٤] فكأنه كان ثم مضى.. فقال ابن عباس: ﴿فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ﴾ [المؤمنون: ١٠١] في النفخة الأولى ﴿فَصَعِقَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض إِلاَّ مَن شَآءَ الله﴾ [الزمر: ٦٨] فلا أنساب بينهم عند ذلك ولا يتساءلون، ثم في النفخة الآخرة قبل بعضهم على بعض يتساءلون، وأما قوله ﴿مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: ٢٣] ﴿وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً﴾ [النساء: ٤٢] فإٍِن الله يغفر لأهل الإِخلاص ذنوبهم فيقول المشركون تعالوا نقول: لم نكن مشركين، فختم الله على أفواههم جوارحهم بأعمالهم لهم فعند ذلك عُلاف أن الله لا يكتم حديثاً وعنده يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين، وخلق الله الأرض في يومين ثم استوى إِلى السماء فسواهنَّ سبع سماوات في يومين، ثم دحا الأرض أي بسطها فأخرج منها الماء والمرعى وخلق فيها الجبال والأشجار والآكام وما بينها في يومين آخرين فذلك قوله ﴿والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا﴾ [النازعات: ٣٠] فخلقت الأرض وما فيها في أربعة أيام وخلقت السماء في يومين، وقوله ﴿وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً﴾ [النساء: ٩٦] فسمّى نفسه ذلك أي لم يزل ولا يزال كذلك، ويحكَ فلا يختلف عليك القرآن فإِن كلاً من عند الله.