إِلى الله قال تعالى مبيناً عاقبة إِجرامهم ﴿أولئك الذين حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدنيا والآخرة﴾ أي بطلت أعمالهم التي عملوها من البر والحسنات، ولم يبق لها أثر في الدارين، بل بقي لهم اللعنة والخزي في الدنيا والآخرة ﴿وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ﴾ أي ليس لهم من ينصرهم من عذاب الله أو يدفع عنهم عقابة.. ثم ذكر تعالى طرفاً من لجاج وعناد أهل الكتاب فقال ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الكتاب﴾ أي ألا تعجب يا محمد من أمر هؤلاء الذين أوتوا نصيباً من الكتاب ﴿فالصيغة صيغة تعجيب للرسول أو لكل مخاطب قال الزمخشري: يريد أحبار اليهود وأنهم حصلوا نصيباً وافراً من التوراة {يُدْعَوْنَ إلى كِتَابِ الله لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ﴾ أي يدعون إِلى التوراة كتابهم الذين بين أيديهم والذي يعتقدون صحته، ليحكم بينهم فيما تنازعوا فيه فيأبون ﴿ثُمَّ يتولى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُمْ مُّعْرِضُونَ﴾ أي ثم يعرض فريق منهم عن قبول حكم الله، وهو استبعاد لتوليهم بعد علمهم بوجوب الرجوع إِليه، وجملة ﴿وَهُمْ مُّعْرِضُونَ﴾ تأكيد للتولي أي وهم قوم طبيعتهم الإِعراض عن الحق، والإِصرار على الباطل، والآية كما يقول المفسرون تشير إِلى قصة تحاكم اليهود إِلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لما زنى منهم إثنان فحكم عليهما بالرجم فأبوا وقالوا: لا نجد في كتابنا إلا التحميم فجيء بالتوراة فوجد فيها الرجم فرجما، فغضبوا فشنَّع تعالى عليهم بهذه الآية ﴿ذلك بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ﴾ أي ذلك التولي والإِعراض بسبب افترائهم على الله وزعمهم أنهم أبناء الأنبياء وأن النار لن تصيبهم إلا مدةً يسيرة - أربعين يوماً - مدة عبادتهم للعجل ﴿وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ﴾ أي غرهم كذبهم على الله ﴿فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ﴾ أي كيف يكون حالهم يوم القيامة حين يجمعهم الله الحساب} ! وهو استعظام لما يدهمهم من الشدائد والأهوال ﴿وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ﴾ أي نالت كل نفسٍ جزاءها العادل ﴿وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾ أي لا يظلمون بزيادة العذاب أو نقص الثواب.
البَلاَغَة: ١ - ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام﴾ الجملة معرّفة الطرفين فتفيد الحصر أي لا دين إِلا الإِسلام.
٢ - ﴿الذين أُوتُواْ الكتاب﴾ التعبير عن اليهود والنصارى بقوله «أوتوا الكتاب» لزيادة التشنيع والتقبيح عليهم فإِن الاختلاف مع علمهم بالكتاب في غاية القبح والشناعة.
٣ - ﴿بِآيَاتِ الله فَإِنَّ الله﴾ إِظهار الاسم الجليل لتربية المهابة وإِدخال الروعة في النفس.
٤ - ﴿أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ﴾ أطلق الوجه وأراد الكل فهو مجاز مرسل من إِطلاق الجزء وإِرادة الكل.
٥ - ﴿فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ الأصل في البشارة أن تكون في الخير واستعمالها في الشر للتهكم ويسمى «الأسلوب التهكمي» حيث نزّل الإِنذار منزلة البشارة السارة كقوله ﴿بَشِّرِ المنافقين بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً﴾ [النساء: ١٣٨] وهو أسلوبٌ مشهور.
فَائِدَة: قال القرطبي: في هذه الآية دليل على فضل العلم، وشرف العلماء، فإِنه لو كان أحد


الصفحة التالية
Icon