لمَّا ولدتها قالت على وجه التحسر والاعتذار يا رب إِنها أنثى قال ابن عباس: إِنما قالت هذا لأنه لم يكن يُقبل في النذر إِلا الذكور فقبل الله مريم قال تعالى ﴿والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ﴾ أي والله أعلم بالشيء الذي وضعت قالت ذلك أولم تقله ﴿وَلَيْسَ الذكر كالأنثى﴾ أي ليس الذكر الذي طَلَبْته كالأنثى التي وُهبِتها بل هذه أفضل والجملتان معترضتان من كلامه تعالى تعظيماً لشأن هذه المولودة وما علّق بها من عظائم الأمور وجعلها وابنها آية للعالمين ﴿وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ﴾ من تتمة كلام امرأة عمران والأصل إِني وضعتُها أنثى وإِني سميتُها مريم أي أسميت هذه الأنثى مريم ومعناه في لغتهم العابدة خادمة الرب ﴿وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشيطان الرجيم﴾ أي أُجيرها بحفظك وأولادها من شر الشيطان الرجيم، فاستجاب الله لها ذلك قال تعالى ﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ﴾ أي قبلها الله قبولاً حسناً قال ابن عباس: سلك بها طريق السعداء ﴿وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً﴾ أي ربّاها تربية كاملة ونشأها تنشئة صالحة ﴿وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا﴾ أي جعل زكريا كافلاً لها ومتعهداً للقيام بمصالحها، حتى إِذا بلغت مبلغ النساء انزوت في محرابها تتعبد الله ﴿كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المحراب وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً﴾ أي كلما دخل عليها زكريا حجرتها ومكان عبادتها وجد عندها فاكهة وطعاماً، قال مجاهد: وجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف ﴿قَالَ يامريم أنى لَكِ هذا﴾ ؟ أي من أين لك هذا؟ ﴿قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ الله إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ أي رزقاً واسعاً بغير جهد ولا تعب ﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ﴾ أي في ذلك الوقت الذي رأى فيه زكريا كرامة الله لمريم دعا ربه متوسلاً ومتضرعاً ﴿قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً﴾ أي أعطني من عندك ولداً صالحاً - وكان شيخاً كبيراً وامرأته عجوزاً وعاقراً - ومعنى طيبة صالحة مباركة ﴿إِنَّكَ سَمِيعُ الدعآء﴾ أي مجيب لدعاء من ناداك ﴿فَنَادَتْهُ الملائكة وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي المحراب﴾ أي ناداه جبريل حال كون زكريا قائماً في الصلاة ﴿أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بيحيى﴾ أي يبشرك بغلام اسمه يحيى ﴿مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ الله﴾ أي مصدقاً بعيسى مؤمناً برسالته، وسمي عيسى كلمة الله لأنه خلق بكلمة «كن» من غير أب ﴿وَسَيِّداً﴾ أي يسود قومه ويفوقهم ﴿وَحَصُوراً﴾ أي يحبس نفسه عن الشهوات عفةَ وزهداً ولا يقرب النساء مع قدرته على ذلك، وما قاله بعض المفسرين أنه كان عنّيناً فباطل لا يجوز على الأنبياء لأنه نقص وذم والآية وردت مورد المدح والثناء ﴿وَنَبِيّاً مِّنَ الصالحين﴾ أي ويكون نبياً من الأنبياء الصالحين قال ابن كثير: وهذه بشارة ثانية بنبوته بعد البشارة بولادته وهي أعلى من الأولى كقوله لأم موسى
﴿إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المرسلين﴾ [القصص: ٧] ﴿قَالَ رَبِّ أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ﴾ أي كيف يأتينا الولد ﴿وَقَدْ بَلَغَنِي الكبر﴾ أي أدركتني الشيخوخة وكان عمره حينذاك مائة وعشرين سنة ﴿وامرأتي عَاقِرٌ﴾ أي عقيم لا تلد وكانت


الصفحة التالية
Icon