تكتمون ما في كتبكم من صفة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأنتم تعلمون ذلك، ثم حكى تعالى نوعاً آخر من مكرهم وخبثهم، وهو أن يظهروا الإِسلام في أول النهار ثم يرتدوا عنه في آخره ليشككوا الناس في دين الإِسلام فقال ﴿وَقَالَتْ طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الكتاب آمِنُواْ بالذي أُنْزِلَ عَلَى الذين آمَنُواْ وَجْهَ النهار﴾ قال ابن كثير: وهذه مكيدة أرادوها ليلبسوا على الضعفاء من الناس أمر دينهم، وهو أنهم تشاوروا بينهم أن يظهروا الإِيمان أول النهار ويصلّوا مع المسلمين فإِذا جاء آخر النهار ارتدوا إِلى دينهم ليقول الجهلة من الناس إِنما ردهم إِلى دينهم اطلاعهم على نقيصةٍ وعيبٍ في دين المسلمين ﴿واكفروا آخِرَهُ﴾ أي اكفروا بالإِسلام آخر النهار ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ أي لعلهم يشكّون في دينهم فيرجعون عنه ﴿وَلاَ تؤمنوا إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ﴾ هذا من تتمة كلام اليهود حكاه الله عنهم والمعنى: لا تصدقوا ولا تظهروا سرّكم وتطمئنوا لأحدٍ إِلا إِذا كان على دينكم ﴿قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله﴾ أي قل لهم يا محمد الهدى ليس بأيديكم وإِنما الهدى هدى الله، يهدي من يشاء إِلى الإِيمان ويثبته عليه كما هدى المؤمنين، والجملة اعتراضية، ثم ذكر تعالى بعد ذلك الاعتراض بقية كلام اليهود فقال ﴿أَن يؤتى أَحَدٌ مِّثْلَ مَآ أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ﴾ أي يقول اليهود بعضهم لبعض: لا تصدّقوا إِلا لمن تبع دينكم، وانظروا فيمن ادعى النوبة فإِن كان متبعاً لدينكم فصدقوه وإِلا فكذبوه، ولا تقروا ولا تعترفوا لأحدٍ بالنبوة إِلا إِذا كان على دينكم، خشية أن يؤتى أحدٌ مثل ما أوتيتم وخشية أن يحاجوكم به عند ربكم، فإِذا أقررتم بنبوة محمد ولم تدخلوا في دينه تكون له الحجة عليكم يوم القيامة، وغرضهم نفي النبوة عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ﴿قُلْ إِنَّ الفضل بِيَدِ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ﴾ أي قل لهم يا محمد أمر النبوة ليس إِليكم وإِنما هو بيد الله والفضل والخير كله بيد الله يؤتيه من يشاء ﴿والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ أي كثير العطاء واسع الإِنعام يعلم من هو أهل له ﴿يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ﴾ أي يختص بالنبوة من شاء ﴿وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ أي فضله واسع عظيم لا يُحدُّوا ولا يُمنع.
البَلاََغَة: جمعت هذه الآيات من ضروب الفصاحة والبلاغة ما يأتي: المجازُ في قوله ﴿إلى كَلِمَةٍ﴾ حيث أطلق اسم الواحد على الجمع، والتشبيه في قوله ﴿أَرْبَاباً﴾ حيث شبّه طاعتهم لرؤساء الدين في أمر التحليل بالربّ المستحق للعبادة، والطباق في قوله ﴿الحق بالباطل﴾ والجناس التام في قوله ﴿يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ﴾ وجناس الاشتقاق في ﴿أَوْلَى﴾ و ﴿وَلِيُّ﴾ والتكرار في عدة مواطن، والحذف في عدة مواطن.
فَأئِدَة: كتب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كتاباً إِلى «هرقل» ملك الروم يدعوه فيه إِلى الإِسلام واستشهد فيه بالآية الكريمة التي فيها إِخلاص الدعوة لعبادة الله وحده، ونصُّ الكتاب كما هو في صحيح مسلم «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إِلى هرقل عظيم الروم، سلامٌ على من اتَّبع الهدى أما بعد: فإِني أدعوك بدعاية الإِسلام، أسلمْ تسْلَم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإِن توليت فإِن عليك إِثم الأريسيين - يعني الفلاحين والخدم - {قُلْ ياأهل الكتاب تَعَالَوْاْ إلى كَلِمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ الله وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ


الصفحة التالية
Icon