المنَاسَبَة: لما بيّن سبحانه وتعالى حكم الرجال والنساء في باب النكاح والميراث، بيّن حكم الحدود فيهن إِذا ارتكبن الحرام، ثم أعقبه بالتحدير عن عادات الجاهلية من ظلم النساء، وأكل مهورهن، وعدم معاملتهن المعاملة الإِنسانية الشريفة.
اللغَة: ﴿واللاتي﴾ جمع التي على غير قياس ﴿الفاحشة﴾ الفعلة القبيحة والمراد بها هنا الزنا ﴿واللذان﴾ تثنية الذي ﴿التوبة﴾ أصل التوبة الرجوع وحقيقتها الندم على فعل القبيح ﴿كَرْهاً﴾ بفتح الكاف بمعنى الإِكراه وبضمها بمعنى المشقة ﴿حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً حتى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أوزعني أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ التي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وعلى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذريتي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ المسلمين {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً﴾ [الأحقاف: ١٥] ﴿تَعْضُلُوهُنَّ﴾ تمنعوهن يقال عضل المرأة إِذا منعها الزواج ﴿بُهْتَاناً﴾ ظلماً وأصله الكذب الذي يتحير منه صاحبه ﴿أفضى﴾ وصل إليها، وأصله من الفضاء وهو السعة ﴿مِّيثَاقاً غَلِيظاً﴾ عهداً شديداً مؤكداً وهو عقد النكاح.
سَبَبُ النّزول: روي أن أهل الجاهلية كانوا إِذا مات الرجل جاء ابنه من غيرها أو وليه فورث امرأته كما يرث ماله وألقى عليها ثوباً، فإِن شاء تزوجها بالصَّداق الأول وإِن شاء زوجها غيره وأخذ صداقها فأنزل الله ﴿يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النسآء كَرْهاً..﴾.
التفِسير: ﴿واللاتي يَأْتِينَ الفاحشة مِن نِّسَآئِكُمْ فاستشهدوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنْكُمْ﴾ أي اللواتي يزنين من أزواجكم فاطلبوا أن يشهد على اقترافهن الزنا أربعة رجال من المسلمين الأحرار ﴿فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي البيوت﴾ أي فإِن ثبتت بالشهود جريمتهن فاحبسوهن في البيوت ﴿حتى يَتَوَفَّاهُنَّ الموت﴾ أي احبسوهنَّ فيها إِلى الموت ﴿أَوْ يَجْعَلَ الله لَهُنَّ سَبِيلاً﴾ أي يجعل الله لهنَّ مخلصاً بما يشرعه من الأحكام قال ابن كثير: كان الحكم في ابتداء الإِسلام أن المرأة إِذا ثبت زناها بالبيِّنة العادلة حُبست في بيت فلا تُمكَّن من الخروج منه إِلى أن تموت، حتى أنزل الله سورة النور فنسخها بالجلد أو الرجم ﴿واللذان يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ﴾ أي واللذان يفعلان الفاحشة والمراد به الزاني والزانية بطريق التغليب ﴿فَآذُوهُمَا﴾ أي بالتوبيخ والتقريع والضرب بالنعال ﴿فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَآ﴾ أي فإِن تابا عن الفاحشة وأصلحا سيرتهما فكفّوا عن الإِيذاء لهما ﴿إِنَّ الله كَانَ تَوَّاباً رَّحِيماً﴾ أي مبالغاً في قبول التوبة واسع الرحمة. قال الفخر الرازي: «خص الحبس في البيت بالمرأة وخص الإِيذاء بالرجل لأن المرأة إِنما تقع في الزنا عند الخروج والبروز فإِذا حبست في البيت انقطعت مادة هذه المعصية، وأما الرجل فإِنه لا يمكن حبسه في البيت لأنه يحتاج إِلى الخروج في إِصلاح معاشه واكتساب قوت عياله فلا جرخ جعلت عقوبتهما مختلفة» ﴿إِنَّمَا التوبة عَلَى الله لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السواء بِجَهَالَةٍ﴾ أي إِنما التوبة التي كتب الله على نفسه قبولها هي توبة من فعل المعصية سفهاً وجهالة مقدَّراً قبح المعصية وسوء عاقبتها ثم ندم وأناب ﴿ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ﴾ أي يتوبون سريعاً قبل مفاجأة الموت ﴿فأولئك يَتُوبُ الله عَلَيْهِمْ﴾ أي يتقبل الله توبتهم ﴿وَكَانَ الله عَلِيماً حَكِيماً﴾ أي عليماً بخلقه حكيماً في شرعه ﴿وَلَيْسَتِ التوبة لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السيئات حتى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الموت قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآن﴾ أي وليس قبول التوبة ممن ارتكب المعاصي واستمر عليها حتى إِذا فاجأه الموت تاب وأناب فهذه توبة المضطر