إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ} [الدخان: ١ - ٣] وغير ذلك من الآيات الدالة على إعجاز القرآن. ثم قال تعالى: ﴿ذَلِكَ الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ﴾ هذا القرآن المنزل عليك يا محمد هو الكتابُ الذي لا يدانيه كتاب ﴿لاَ رَيْبَ فِيهِ﴾ أي لا شك في أنه من عند الله لمن تفكر وتدبر، أو ألقى السمع وهو شهيد ﴿هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾ أي هادٍ للمؤمنين المتقين، الذين يتقون سخط الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، ويدفعون عذابه بطاعته، قال ابن عباس: المتقون هم الذين يتقون الشرك، ويعملون بطاعة الله، وقال الحسن البصري: اتقوا ما حُرِّم عليهم، وأدَّوْا ما افتُرض عليهم.. ثم بيَّن تعالى صفات هؤلاء المتقين فقال ﴿الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب﴾ أي يصدقون بما غاب عنهم ولم تدركه حواسهم من البعث، والجنة، والنار، والصراط، والحساب، وغير ذلك من كل ما أخبر عنه القرآن أو النبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ﴿وَيُقِيمُونَ الصلاوة﴾ أي يؤدونها على الوجه الأكمل بشروطها وأركانها، وخشوعها وآدابها قال ابن عباس: إقامتُها: إتمام الركوع والسجود والتلاوة والخشوع ﴿وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ أي ومن الذي أعطيناهم من الأموال ينفقون ويتصدقون في وجوه البر والإِحسان، والآية عامة تشمل الزكاة، والصدقة، وسائر النفقات، وهذا اختيار ابن جرير، وروي عن ابن عباس أن المراد بها زكاة الأموال، قال ابن كثير: كثيراً ما يقرن تعالى بين الصلاة والإِنفاق من الأموال، لأن الصلاة حقُّ الله وهي مشتملة على توحيده وتمجيده والثناء عليه، والإِنْفاقُ هو الإِحسان إلى المخلوقين وهو حق العبد، فكلٌ من النفقات الواجبة، والزكاة المفروضة داخل في الآية الكريمة ﴿والذين يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾ أي يصدقونه بكل ما جئت به عن الله تعالى ﴿وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ﴾ أي وبما جاءت به الرسل من قبلك، لا يفرّقون بين كتب الله ولا بين رسله ﴿وبالآخرة هُمْ يُوقِنُونَ﴾ أي ويعتقدون اعتقاداً جازماً لا يلابسه شك أو ارتياب بالدار الآخرة التي تتلو الدنيا، بما فيها من بعثٍ وجزاءٍ، وجنةٍ، ونار، وحساب، وميزان، وإِنما سميت الدار الآخرة لأنها بعد الدنيا ﴿أولئك على هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ﴾ أي أولئك المتصفون بما تقدم من الصفات الجليلة، على نور وبيان وبصيرة من الله ﴿وأولئك هُمُ المفلحون﴾ أي وأولئك هم الفائزون بالدرجات العالية في جنات النعيم.
البَلاَغة: تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
١ - المجاز العقلي ﴿هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾ أسند الهداية للقرآن وهو من الإِسناد للسبب، والهادي في الحقيقة هو الله ربُّ العالمين ففيه مجاز عقلي.
٢ - الإِشارة بالبعيد عن القريب ﴿ذَلِكَ الكتاب﴾ للإِيذان بعلو شأنه، وبعد مرتبته في الكمال، فنُزِّل بُعْد المرتبة منزلة البعد الحسي.
٣ - تكرير الإِشارة ﴿أولئك على هُدًى﴾ ﴿وأولئك هُمُ المفلحون﴾ للعناية بشأن المتقين، وجيء بالضمير ﴿هُمُ﴾ ليفيد الحصر كأنه قال: هم المفلحون لا غيرهم.
٤ - التيئيس من إيمان الكفار ﴿سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ فالجملة سيقت للتنبيه على غلوهم في الكفر والطغيان، وعدم استعدادهم للإِيمان، ففيها تيئيس وإِقناط من إِيمانهم.