بما عملوا وهذا وعيدٌ لهم وتهديد، ثم ذكر تعالى عقائد النصارى الضالة في المسيح فقال ﴿لَقَدْ كَفَرَ الذين قالوا إِنَّ الله هُوَ المسيح ابن مَرْيَمَ﴾ قال أبو السعود: هذا شروعٌ في تفصيل قبائح النصارى وإِبطال أقوالهم الفاسدة بعد تفصيل قبائح النصارى وإِبطال أقوالهم الفاسدة بعد تفصيل قبائح اليهود وهؤلاء الذين قالوا إِن مريم ولدت إِلهاً هم «اليعقوبية» زعموا أن الله تعالى حلَّ في ذات عيسى واتحد به، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً ﴿وَقَالَ المسيح يابني إِسْرَائِيلَ اعبدوا الله رَبِّي وَرَبَّكُمْ﴾ أي أنا عبدٌ مثلكم فاعبدوا خالقي وخالقكم الذي يذلّ له كل شيء ويخضع له كل موجود قال ابن كثير: كان أول كلمة نطق بها وهو صغير أن قال
﴿إِنِّي عَبْدُ الله﴾ [مريم: ٣٠] ولم يقل: إِني أنا الله، ولا ابن الله بل قال ﴿إِنِّي عَبْدُ الله آتَانِيَ الكتاب وَجَعَلَنِي نَبِيّاً﴾ [مريم: ٣٠] وقال القرطبي: ردَّ الله عليهم ذلك بحجةٍ قاطعةٍ مما يُقرّون به فقال ﴿وَقَالَ المسيح يابني إِسْرَائِيلَ اعبدوا الله رَبِّي وَرَبَّكُمْ﴾ فإِذا كان المسيح يقول: يا رب، ويا ألله فكيف يدعو نفسه أم كيف يسألها؟ هذا محال ﴿إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بالله فَقَدْ حَرَّمَ الله عَلَيهِ الجنة﴾ أي من يعتقد بألوهية غير الله فلن يدخل الجنة أبداً لأنها دار الموحّدين ﴿وَمَأْوَاهُ النار﴾ أي مصيره نار جهنم ﴿وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ﴾ أي فلا ناصر ولا منقذ له من عذاب الله ﴿لَّقَدْ كَفَرَ الذين قالوا إِنَّ الله ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ﴾ أي أحد ثلاثة الإِلهيّة وهذا قول فرقةٍ من النصارى يسمون «النُّسطورية والملكانية» القائلين بالتثليث وهم يقولون: إِن الإلهيّة مشتركة بين الله، وعيسى، ومريم وكل واحدٍ من هؤلاء إِله ولهذا اشتهر قولهم «الأب والإِبن وروح القدس» ﴿وَمَا مِنْ إله إِلاَّ إله وَاحِدٌ﴾ أي والحال أنه ليس في الوجود إِلا إِله واحدٌ موصوفٌ بالوحدانية متعالٍ عن المثيل والنظير ﴿وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ﴾ أي وإِن لم يكفّوا عن القول بالتثليث ﴿لَيَمَسَّنَّ الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ أي ليمسنهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة ﴿أَفَلاَ يَتُوبُونَ إلى الله وَيَسْتَغْفِرُونَهُ﴾ الاستفهام للتوبيخ أي أفلا ينتهون عن تلك العقائد الزائفة والأقاويل الباطلة ويستغفرون الله مما نسبوه إِليه من الاتحاد والحلول؟ ﴿والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ أي يغفر لهم ويرحمهم إن تابوا قال البيضاوي: وفي هذا الاستفهام ﴿أَفَلاَ يَتُوبُونَ﴾ تعجيبٌ من إِصرارهم على الكفر ﴿مَّا المسيح ابن مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل﴾ أي ما المسيح إِلا رسولٌ كالرسل الخالية الذين تقدموه خصّه الله تعالى ببعض الآيات الباهرات إِ؟ هاراً لصدقه كما خصّ بعض الرسل، فإِن أحيا الموتى على يده فقد أحيا العصا في يد موسى.
وجعلت حية تسعى وهو أعجب، وإن خُلق من غير أب فقد خلق آدم من غير أبٍ ولا أم وهو أغرب، وكلُّ ذلك من جنابه عَزَّ وَجَلَّ وإِنما موسى وعيسى مظاهر شئونه وأفعاله ﴿وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ﴾ أي مبالغة في الصّدق ﴿كَانَا يَأْكُلاَنِ الطعام﴾ أي أنه مخلوق كسائر المخلوقين مركبٌ من عظمٍ ولحمٍ وعروقٍ وأعصاب وفيه إِشارة لطيفة إِلى أن من يأكل الطعام لا بدّ أن يكون في حاجة إِلى إخراجه ومن يكن هذا حاله فكيف يُعْبد، أو كيف يُتوهم أنه إِله؟ {


الصفحة التالية
Icon