ثم وبخهم بأنهم أول من فعلها قال أبو حيان: ولما كان هذا الفعل معهوداً قبحه، ومركوزاً في العقول فحشه أتى به معرفاً بالألف واللام ﴿الفاحشة﴾ بخلاف الزنى فإنه قال فيه
﴿إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً﴾ [النساء: ٢٢] فأتى به منكراً، والجملة المنفية ﴿مَا سَبَقَكُمْ﴾ تدل على أنهم أول من فعل هذه الفعلة القبيحة وأنهم مبتكروها، والمبالغة في ﴿مِنْ أَحَدٍ﴾ حيث زيدت مِنْ لتأكيد نفي الجنس، وفي الإِتيان بعموم ﴿العالمين﴾ جمعاً قال عمرو بن دينار: ما رؤي ذكرٌ على ما ذكر قبل قوم لوط ﴿إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرجال شَهْوَةً مِّن دُونِ النسآء﴾ هذا بيانٌ للفاحشة وهو توبيخٌ آخر أشنع مما سبق لتأكيده بإنَّ وباللام أي إنكم أيها القوم لتأتون الرجال في أدبارهم شهوة منكم لذلك الفعل الخبيث المكروه دون ما أحله الله لكم من النساء ثم أضرب عن الإِنكار إلى الإِخبار عنهم بالجال التي توجب ارتكاب القبائح واتباع الشهوات فقال ﴿بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ﴾ أي لا عذر لكم بل أنتم عادتكم الإِسراف وتجاوز الحدود في كل شيء قال أبو السعود: وفي التقييد بقوله ﴿شَهْوَةً﴾ وصفٌ لهم بالبهيمية الصِّرفة وتنبيهٌ على أن العاقل ينبغي أن يكون الداعي له إلى المباشرة طلب الولد وبقاء النسال لاقضاء الشهوة ﴿وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قالوا أَخْرِجُوهُمْ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ﴾ أي ما كان جوابهم للوطٍ إذ وبخهم على فعلهم القبيح إلا أن قال بعضهم لبعض: أخرجوا لوطاً وأتباعه المؤمنين من بلدتكم لأنهم أناس يتنزهون عما نفعله نحن من إتيان الرجال في الأدبار، قال ابن عباس ومجاهد: ﴿إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ﴾ أي يتقذرون عن إتيان أدبار الرجال والنساء، قالوا ذلك سخرية واستهزاءً بلوط وقومه وعابوهم بما يمدح به الإِنسان ﴿فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امرأته كَانَتْ مِنَ الغابرين﴾ أي أنجيناه من العذاب الذي حلّ بقومه وأهله المؤمنين إلا امرأته فلم تنج وكانت من الباقين وبالله كافرة فهلكت مع من هلك من قوم لوط حين جاءهم العذاب ﴿وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَراً﴾ أي أرسلنا عليه نوعاً من المطر عجيباً هو حجارة من سجيل كما في الآية الأخرى
﴿فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ﴾ [الحجر: ٧٤] وشبه العذاب بالمطر المدرار لكثرته حيث أرسل إرسال المطر ﴿فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المجرمين﴾ أي انظر أيها السامع إلى عاقبة هؤلاء المجرمين كيف كانت؟ وإلى أي شيءٍ صارت؟ هل كانت إلا البوار والهلاك؟! ﴿وإلى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَاقَوْمِ اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ﴾ أي وأرسلنا إلى أهل مدين شعيباً داعياً لهم إلى توحيد الله وعبادته قال ابن كثير: ومدين تطلق على القبيلة وعلى المدينة وهي التي بقرب «معان» من طريق الحجاز وهم أصحاب الأيكة كما سنذكره ﴿قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ﴾ أي معجزة تدل على صدقي ﴿فَأَوْفُواْ الكيل والميزان﴾ أي أتموا للناس حقوقهم بالكليل الذي تكيلون به والوزن الذي تزنون به ﴿وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَاءَهُمْ﴾ أي لا تظلموا الناس حقوقهم ولا تُنْقصوهم إياها ﴿وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرض بَعْدَ إِصْلاَحِهَا﴾ أي لا تعملوا بالمعاصي بعد إصلاحها ببعثة الرسل ﴿ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ﴾ أي ما أمرتكم به من إخلاص العبادة لله


الصفحة التالية
Icon