ثانياً: قوله ﴿يَكْتُبُونَ الكتاب بِأَيْدِيهِمْ﴾ ذكر الأيدي هنا لدفع توهم المجاز، وللتأكيد بأن الكتابة باشروها بأنفسهم كما يقول القائل: كتبته بيميني، وسمعته بأذني.
ثالثاً: قوله ﴿مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ فيه من المحسّنات البديعية ما يسمى ب (الطباق) حيث جمع بين لفظتي «يسرون» و «يعلنون» وهو من نوع طباع الإِيجاب.
رابعاً: التكرير في قوله ﴿فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب بِأَيْدِيهِمْ﴾ وقوله ﴿فَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ﴾ وقوله ﴿وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ﴾ للتوبيخ والتقريع ولبيان أن جريمتهم بلغت من القبح والشناعة الغاية القصوى.
خامساً: قوله ﴿وَأَحَاطَتْ بِهِ خطيائته﴾ هو من باب الاستعارة حيث شبّه الخطايا بجيش من الأعداء نزل على قوم من كل جانب فأحاط به إِحاطة السوار بالمعصم، واستعار لفظة الإِحاطة لغلبة السيئات على الحسنات، فكأنها أحاطت بها من جميع الجهات.
الفَوائِد: الفائدة الأولى: تحريف كلام الله يصدق بتأويله تأويلاً فاسداً، ويصدق بمعنى التغيير وتبديل كلام بكلام، وقد وقع من أحبار اليهود التحريف بالتأويل، وبالتغيير، كما فعلوا في صفته عليه السلام قال العلامة أبو السعود: روي أن أحبار اليهود خافوا زوال رياستهم فعمدوا إِلى صفة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في التوراة وكانت هي فيها «حسن الوجه، حسن الشعر، أكحل العينين، أبيض ربعة» فغيرّوها وكتبوا مكانها «طوال، أزرق، سبط الشعر» فإِذا سألهم العامة عن ذلك قرءوا ما كتبوا فيجدونه مخالفاً لما في التوراة فيكذبونه.
الثانية: التحريف بقسمية وقع في الكتب السماوية كالتوراة والإنجيل كما قال تعالى ﴿يُحَرِّفُونَ الكلم عَن مَّوَاضِعِهِ﴾ [النساء: ٤٦] أما التحريف بمعنى التأويل الباطل فقد وقع في القرآن من الجهلة أو الملاحدة، وأما التحريف بمعنى إِسقاط الآية ووضع كلام بدلها فقد حفظ الله منه كتابه العزيز
﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: ٩].
الثالثة: روى البخاري عن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أنه قال «لما فتحت خيبراً أهديت لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ شاةٌ فيها سمٌّ، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: اجمعوا لي من كان من اليهود هنا، فقال لهم رسول الله: مَنْ أبوكم؟ قالوا: فلان قال: كذبتم بل أبوكم فلان فقالوا: صدقتَ وبررت ثم قال لهم: هل أنتم صادقيَّ عن شيء إِن سألتكم عنه؟ قالوا نعم يا أبا القاسم، وإِن كذبناك عرفت كذبنا كما عرفنا في أبينا، فقال لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: من أهل النار؟ فقالوا: نكون فيها يسيراً ثم تخلفونا فيها، فقال لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: اخسئوا والله لا نخلفكم فيها أبداً، ثم قال لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: هل أنتم صادقيَّ عن شيء إِن سألتكم عنه؟ قالوا: نعم يا أبا القاسم، قال: هل جعلتم في هذه الشاة سماً؟ فقالوا نعم قال: فما حملكم على ذلك؟ فقالوا: أردنا إِن كنت كاذباً أن نستريح منك، وإِن كنت نبياً لم يضرك».


الصفحة التالية
Icon