الحكمة، بدقةٍ وإحكام وتقدير ﴿وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ﴾ أي ما تعيشون به من المطاعم والمشارب ﴿وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ﴾ أي وجعلنا لكم من العيال والمماليك والأنعام من لستم له برازقين، لأننا نخلق طعامهم وشرابهم لا أنتم ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ﴾ أي ما من شيء من أزراق الخلق والعباد ومنافعهم إلا عندنا خزائنه ومستودعاته ﴿وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ﴾ أي ولكن لا ننزله إلا على حسب حاجة الخلق إليه، وعلى حسب المصالح، كما نشاء ونريد ﴿وَأَرْسَلْنَا الرياح لَوَاقِحَ﴾ أي تلقِّح السحاب فيدر ماءً، وتلقّح الشجر فيتفتَّح عن أوراقه وأكمامه، فالريح كالفحل للسحاب والشجر ﴿فَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ﴾ أي فأنزلنا من السحاب ماءً عذباً، جعلناه لسقياكم ولشرب أرضكم ومواشيكم ﴿وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ﴾ أي لستم بقادرين على خزنه بل نحن بقدرتنا نحفظه لكم في العيون والآبار والأنهار، ولو شئنا لجعلناه غائراً في الأرض فهلكتم عطشاً كقوله
﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَآءٍ مَّعِينٍ﴾ [الملك: ٣٠] ؟ ﴿وَإنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الوارثون﴾ أي الحياة والموت بيدنا ونحن الباقون بعد فناء الخلق، نرث الأرض الأرض ومن عليها وإلينا يُرجعون ﴿وَلَقَدْ عَلِمْنَا المستقدمين مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا المستأخرين﴾ أي أحطنا علماً بالخلق أجمعين، الأموات منهم والأحياء قال ابن عباس: المستقدمون كل من هلك من لدن آدم عليه السلام والمستأخرون من هو حي ومن سيأتي إلى يوم القيامة وقال مجاهد: المستقدمون: الأمم السابقة، والمستأخرون أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، والغرضُ أنه تعالى محيطٌ علمه بمن تقدم وبمن تأخر، لا يخفى عليه شيء من أحوال العباد، وهو بيان لكمال علمه بعد الاحتجاج على كمال قدرته ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ﴾ أي وإن ربك يا محمد هو يجمعهم للحساب والجزاء ﴿إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ﴾ أي حكيمٌ في صنعه عليمٌ بخلقه، ولما ذكر تعالى الموت والفناء، والبعث والجزاء، نبّههم إلى مبدأ أصلهم وتكوينهم من نفسٍ واحدة، ليشير إلى أن القادر على الإِحياء قادر على الإِفناء والإِعادة، وذكّرهم بعداوة إبليس لأبيهم آدم ليحذروه فقال: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن صَلْصَالٍ﴾ أي خلقنا آدم من طين يابسٍ يسمع له صَلْصلة أي صوت إذا نُقر ﴿مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ﴾ أي من طين أسود متغيّر ﴿والجآن خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السموم﴾ أي ومن قبل آدم خلقنا الجانَّ - أي الشياطين ورئيسهم إبليس - من نار السموم وهي النار الحارة الشديدة التي تنفذ في المسامّ فتقتل بِحرها قال المفسرون: عني بالجانِّ هنا «إبليس» أبا الجنِّ لأن منه تناسلت الجن فهو أصل لها كما أن آدم أصل للإِنس ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلآئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ﴾ أي اذكر يا محمد وقت قول ربك للملائكة إني خالق بشراً من طين يابسٍ، أسود متغيّر قال ابن كثير: فيه تنويهٌ بذكر آدم في الملائكة قبل خلقه له، وتشريفه إيّاه بأمر الملائكة بالسجود له، وامتناع إبليس عدوه عن السجود له حسداً وكفراً ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ﴾ أي سويت خَلْقه وصورته، وجعلته إنساناً كاملاً معتدل الأعضاء ﴿وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي﴾ أي أفضتُ عليه من الروح التي هي خلقٌ من خلقي فصار بشراً حياً ﴿فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ﴾ أي خرو له ساجدين، سجود تحيةٍ