وأولئك هُمُ الكاذبون} أي وأولئك هم الكاذبون على الحقيقة لا محمد الرسول الأمين ﴿مَن كَفَرَ بالله مِن بَعْدِ إيمَانِهِ﴾ أي من تلفَّظ بكلمة الكفر وارتد عن الدين بعد ما دخل فيه ﴿إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان﴾ أي إلا من تلفَّظ بكلمة الكفر مكرهاً والحال أن قلبه مملوءٌ إيماناً ويقيناً، والآيةُ تغليظٌ لجريمة المرتد لأنه عرف الإِيمان وذاقه ثم ارتدَّ إِيثاراً للحياة الدنيا على الآخرة قال المفسرون:
«نزلت في عمار بن ياسر أخذه المشركون فعذبوه حتى أعطاهم ما أرادوا مُكْرهاً فقال الناس: إِنَّ عماراً كفر فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: إنَّ عماراً ملئ إيماناً من فرقه إلى قدمه، واختلط الإِيمان بلحمه ودمه، فأتى عمار رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو يبكي فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: كيف تجد قلبك؟ قال: مطمئناً بالإيمان قال: إن عادوا فعُدْ» ﴿ولكن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً﴾ أي طابت نفسه بالكفر وانشرح صدره له ﴿فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ الله وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ أي ولهم غضبٌ شديد مع عذاب جهنم، إِذْ لا جرم أعظم من جرمهم ﴿ذلك بِأَنَّهُمُ استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة﴾ أي ذلك العذاب بسبب أنهم آثروا الدنيا واختاروها على الآخرة ﴿وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين﴾ أي لا يوفقهم إلى الإيمان ولا يعصمهم من الزيغ والضلال ﴿أولئك الذين طَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ﴾ أي ختم على قلوبهم وأسماعهم وأبصارهم فجعل عليها غلافاً بحيث لا تُذعن للحق ولا تسمعه ولا تبصره ﴿وأولئك هُمُ الغافلون﴾ أي الكاملون في الغفلة إِذْ أغفلتهم الدنيا عن تدبر العواقب ﴿لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخرة هُمُ الخاسرون﴾ أي حقاً ولا شك ولا ريب في أنهم الخاسرون في الآخرة لأنهم ضيَّعوا أعمارهم في غير منفعة تعود عليهم قال المفسرون: وصفهم تعالى بست صفات هي: الغضب من الله، والعذاب العظيم، واختيارهم الدنيا على الآخرة، وحرمانهم من الهدى، والطبع على قلوبهم، وجعلهم من الغافلين ﴿ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ﴾ أي ثم إن ربك يا محمد للذين هاجروا في سبيل الله بعد ما فتنهم المشركون الطغاة عن دينهم بالعذاب ﴿ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ﴾ أي ثم جاهدوا في سبيل الله وصبروا على مشاقّ الجهاد ﴿إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ أي إن ربك بعد تلك الهجرة والجهاد والصبر سيغفر لهم ويرحمهم.
البَلاَغَة: تضمنت الآيات الكريمة من وجوه البيان والبديع ما يلي:
١ - التشبيه التمثيلي ﴿وَلاَ تَكُونُواْ كالتي نَقَضَتْ غَزْلَهَا﴾ الآية شبه تعالى من يحلف ثم لا يفي بعهده بالمرأة التي تغزل غزلاً ثم تنقضه.
٢ - الاستعارة في ﴿فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا﴾ استعار القدم للرسوخ في الدين والتمكن فيه لأن أصل الثبات يكون بالقدم ولما كان الزلل عن محجة الحق يشبه زلل القدم وانزلاقها عبَّر به عن الانزلاق الحسي بطريق الاستعارة.
٣ - الطباق بين ﴿يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ﴾ وبين ﴿أَعْجَمِيٌّ.. عَرَبِيٌّ﴾ وبين ﴿يَنفَدُ... بَاقٍ﴾
٤ -