والعدوان وانتهاك محارم الله ﴿فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولاهُمَا﴾ أي أُولى المرتين من الإِفساد ﴿بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ﴾ أي سلَّطنا عليكم من عبيدنا أناساً جبارين للانتقام منكم ﴿أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ﴾ أي أصحاب قوةٍ وبطش في الحرب شديد قال المفسرون: إن بني إسرائيل لما استحلوا المحارم وسفكوا الدماء سلَّط الله عليهم بختنصر ملك بابل فقتل منهم سبعين ألفاً حتى كاد يفنيهم هو وجنوده، وذلك أول الفسادين ﴿فَجَاسُواْ خِلاَلَ الديار﴾ أي طافوا وسط البيوت يروحون ويغدون للتفتيش عنكم واستئصالكم بالقتل والسلب والنهب لا يخافون من أحد ﴿وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً﴾ أي كان ذلك التسليط والانتقام قضاءً جزماً حتماً لا يقبل النقض والتبديل ﴿ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكرة عَلَيْهِمْ﴾ أي ثمَّ لما تبتم وأنبتم أهلكنا أعداءكم ورددنا لكم الدَّوْلَة والغلبة عليهم بعد ذلك البلاء الشديد ﴿وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ﴾ أي أعطيناكم الأموال الكثيرة والذرية الوفيرة، بعد أن نُهبت أموالكم وسُبيت أولادكم ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً﴾ أي جعلناكم أكثر عدداً ورجالاً من عدوكم لتستعيدوا قوتكم وتبنوا دولتكم ﴿إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ﴾ أي إن أحسنتم يا بني إسرائيل فإحسانكم لأنفسكم ونفعه عائد عليكم لا ينتفع الله منها بشيء ﴿وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا﴾ أي وإن أسأتم فعليها لا يتضرر الله بشيء منها، فهو الغني عن العباد، لا تنفعه الطاعة ولا تضره المعصية ﴿فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخرة﴾ أي فإذا جاء وعد المرة الأخيرة من إفسادكم بقتل يحيى وانتهاك محارم الله بعثنا عليكم أعداءكم مرة ثانية ﴿لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ﴾ أي بعثناهم ليهينوكم ويجعلوا آثار المساءة والكآبة باديةً على وجوهكم بالإِذلال والقهر ﴿وَلِيَدْخُلُواْ المسجد كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ أي وليدخلوا بيت المقدس فيخربوه كما خربوه أول مرة ﴿وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً﴾ أي وليدمروا ويهلكوا ما غلبوا عليه تدميراً، فقد سلّط الله عليهم مجوس الفرس فشردوهم في الأرض وقتلوهم ودمَّروا مملكتهم تدميراً ﴿عسى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ﴾ أي لعل الله يرحكم ويعفو عنكم إن تبتم وأنبتم، وهذا وعدٌ منه تعالى بكشف العذاب عنهم إن رجعوا إلى الله و ﴿عسى﴾ من الله واجبة ﴿وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا﴾ أي وإن عدتم إلى الإِفساد والإِجرام عدنا إلى العقوبة والانتقام ﴿وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً﴾ أي وجعلنا جهنم محبساً وسجناً للكافرين، لا يقدرون على الخروج منها أبَدَ الآبدين، ثم بيًّن تعالى مزية التنزيل الكريم الذي فاق بها سائر الكتب السماوية فقال ﴿إِنَّ هذا القرآن يَِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ أي إنَّ هذا القرآن العظيم يهدي لأقوم الطرق وأوضح السُّبُل، ولما هو أعدل وأصوب ﴿وَيُبَشِّرُ المؤمنين الذين يَعْمَلُونَ الصالحات أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً﴾ أي ويبشر المؤمنين الذين يعملون بمقتضاه بالأجر العظيم في جنات النعيم ﴿وأَنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً﴾ أي ويبشرهم بأن لأعدائهم الذين لا يصدقون بالآخرة العقاب الأليم في دار الجحيم، وقد جمعت الآية بين الترغيب والترهيب ﴿وَيَدْعُ الإنسان بالشر دُعَآءَهُ بالخير﴾ أي يدعو بالشر على نفسه كدعائه لها بالخير، ولو استجيب له في الشر كما يستجاب له في الخير