جعلنا له في الآخرة جهنم يدخلها مهاناً حقيراً مطروداً من رحمة الله ﴿وَمَنْ أَرَادَ الآخرة وسعى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾ أي ومن أراد الدار الآخرة وما فيها من النعيم المقيم، وعمل لها عملها الذي يليق بها من الطاعات وهو مؤمن صادق الإِيمان ﴿فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً﴾ أي فأولئك الجامعون للخصال الحميدة من الإِخلاص، والعمل الصالح، والإِيمان.
كان عملهم مقبولاً عند الله أحسن القبول، مثاباً عليه ﴿كُلاًّ نُّمِدُّ هؤلاء وهؤلاء مِنْ عَطَآءِ رَبِّكَ﴾ أي كل واحدٍ من الفريقين الذين أرادوا الدنيا، والذين أرادوا الآخرة نعطيه من عطائنا الواسع تفضلاً منا وإحساناً، فنعطي المؤمن والكافر والمطيع والعاصي ﴿وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً﴾ أي ما كان عطاؤه تعالى محبوساً ممنوعاً عن أحد ﴿انظر كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ﴾ أي أنظر يا محمد كيف فاوتنا بينهم في الأرزاق والأخلاق في هذه الحياة الدنيا فهذا غني وذاك فقير، وهذا شريف وذاك حقير ﴿وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً﴾ أي ولتفاوتُهم في الدار الآخرة أعظم من التفاوت في هذا الدار لأن الآخرة دار القرار وفيها ما لا عينٌ رأت، ولا أُذُنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر ﴿لاَّ تَجْعَل مَعَ الله إلها آخَرَ﴾ أي لا تجعل مع الله شريكاً ولا تتخذ غيره إلهاً تعبده ﴿فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَّخْذُولاً﴾ أي فتصير ملوماً عند الله مخذولاً منه لا ناصر لك ولا معين.
البَلاَغَة: تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
١ - براعة الاستهلال ﴿سُبْحَانَ الذي أسرى﴾ لأنه لما كان أمراً خارقاً للعادة بدأ بلفظ يشير إلى كمال القدرة وتنزه الله عن صفات النقص.
٢ - إضافة التكريم والتشريف ﴿بِعَبْدِهِ﴾.
٣ - جناس الاشتقاق ﴿وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً﴾ ﴿تَزِرُ وَازِرَةٌ﴾.
٤ - الطباق بين ﴿أَحْسَنْتُمْ... وأَسَأْتُمْ﴾ وبين ﴿ضَلَّ... واهتدى﴾.
٥ - إيجاز بالحذف ﴿اقرأ كتابك﴾ أي يقال له يوم القيامة إقرأ كتابك ﴿أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا﴾ أي أمرناهم بطاعة الله فعصوا وفسقوا فيها.
٦ - المجاز العقلي ﴿آيَةَ النهار مُبْصِرَةً﴾ لأن النهار لا يُبصر بل يُبْصر فيه فهو من إسناد الشيء إلى زمانه.
٧ - الاستعارة اللطيفة ﴿طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ﴾ استعير الطائر لعمل الإِنسان، ولما كان العرب يتفاءلون ويتشاءمون بالطير سموا نفس الخير والشر بالطائر بطريق الاستعارة.
لطيفَة: الحكمة في إسرائه إلى بيت المقدس ثم عروجه من بيت المقدس إلى السماوات العلى أنه مجمع أرواح الأنبياء، وموطن تنزل الوحي الإِلهي على الرسل الكرام، ولما كانت هذه الرحلة رحلة تكريم أراد تعالى أن يشرفهم بزيارته. ولهذا صلى بهم إماماً صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
تنبيه: وصفه تعالى في هذه السورة بالعبودية ﴿أسرى بِعَبْدِهِ﴾ لأنه أشرف المقامات وأسمى المراتب العلية، كما وصفه في مقام الوحي كذلك ﴿فأوحى إلى عَبْدِهِ مَآ أوحى﴾ [النجم: ١٠] وفي مقام الدعوة ﴿وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ الله يَدْعُوهُ﴾ [الجن: ١٩] ولهذا قال القاضي عياض: