بلغتُ في الكبر والشيخوخة نهاية العمر قال المفسرون: كان قد بلغ مائةً وعشرين سنة، وامرأتهُ ثمانٍ وتسعين سنة، فأراد أن يطمئنَّ ويعرف الوسيلة التي يرزقه بها هذا الغلام ﴿قَالَ كذلك قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ﴾ أي قال الله لزكريا: هكذا الأمر أخلقه من شيخين كبيرين، وخلقه وإيجادُه سهلٌ يسيرٌ عليَّ ﴿وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً﴾ أي كما خلقتُك من العدم ولم تكُ شيئاً مذكوراً فأنا قادر على خلق يحيى منكما قال المفسرون: ليس في الخلق هينٌ وصعبٌ على الله، فوسيلة الخلق للصغير والكبير، والجليل والحقير واحدةٌ ﴿كُن فَيَكُونُ﴾ وإنما هو أهونُ في اعتبار الناس، فإن القادر على الخلق من العدم قادرٌ على الخلق من شيخين هرمين ﴿قَالَ رَبِّ اجعل لي آيَةً﴾ أي اجعل لي علامة تدل على حمل امرأتي ﴿قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ الناس ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيّاً﴾ أي علامتك ألا تستطيع تكليم الناس ثلاثة أيام بلياليهن وأنت سويُّ الخلق ليس بك خرسٌ ولا علة قال ابن عباس: اعتُقِل لسانه من غير مرض وقال ابن زيد: حُبس لسانه فكان لا يستطيع أن يكلم أحداً وهو مع ذلك يسبح ويقرأ التوراة لم يكن الإنجيل ظهر بعد لأن هذا قبل ولادة عيسى عليه السلام فإذا أراد الناس لم يستطع أن يكلمهم ﴿فَخَرَجَ على قَوْمِهِ مِنَ المحراب﴾ أي أشرف عليهم من المصلّى وهو بتلك الصفة ﴿فأوحى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيّاً﴾ أي أشار إلى قومه بأن سبّحوا الله في أوائل النهار وأواخره، وكان كلامه مع الناس بالإِشارة لقوله تعالى في آل عمران ﴿قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ الناس ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً﴾ [آل عمران: ٤١] ﴿يايحيى خُذِ الكتاب بِقُوَّةٍ﴾ في الكلام حذفٌ والتقدير فلما ولد يحيى وكبر وبلغ السن الذي يؤمر فيه قال الله له: يا يحيى خذ التوراة بجدٍ واجتهاد ﴿وَآتَيْنَاهُ الحكم صَبِيّاً﴾ أي أعطيناه الحكمة ورجاحة العقل منذ الصغر، روي أن الصبيان قالوا ليحيى: اذهب بنا نلعبُ فقال لهم: ما للَّعب خُلقت، وقيل: أعطي النبوة منذ الصغر والأول أظهر قال الطبري: المعنى أعطيناه الفهم لكتاب الله في حال صباه قبل بلوغه سن الرجال ﴿وَحَنَاناً مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً﴾ أي فعلنا ذلك رحمة منا بأبوية وعطفاً عليه وتزكيةً له من الخصال الذميمة ﴿وَكَانَ تَقِيّاً﴾ أي عبداً صالحاً متقياً لله، لم يهمَّ بمعصيةٍ قط قال ابن عباس: طاهراً لم يعلم بذنب ﴿وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِيّاً﴾ أي جعلناه باراً بأبيه وأمه محسناً إليهما ولم يكن متكبراً عاصياً لربه ﴿وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً﴾ أي سلام عليه من الله من حين مولده إلى حين مبعثه، في يوم ولادته وفي يوم موته ويوم يُبعث من قبره قال ابن عطية: حيَّاه في المواطن التي يكون الإنسان فيها في غاية الضعف، والحاجة، والافتقار إلى الله ﴿واذكر فِي الكتاب مَرْيَمَ﴾ هذه هي القصة الثانية في هذه السورة وهي أعجب من قصة «ميلاد يحيى» لأنها ولادة عذراء من غير بعل، وهي أغرب من ولادة عاقرٍ من بعلها الكبير في السن والمعنى اذكر يا محمد قصة مريم العجيبة الغريبة الدالة على كمال قدرة الله ﴿إِذِ انتبذت مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً﴾ أي حين تنحَّتْ واعتزلت أهلها في مكان شرقيَّ بيت المقدس لتتفرع لعبادة الله ﴿فاتخذت مِن دُونِهِم حِجَاباً﴾ أي جعلت بينها وبين قومها


الصفحة التالية
Icon