ولا تحزني ﴿فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ البشر أَحَداً﴾ أي فإن رأيتِ أحداً من الناس وسألك عن شأن المولود ﴿فقولي إِنِّي نَذَرْتُ للرحمن صَوْماً﴾ أي نذرت السكوت والصمت لله تعالى ﴿فَلَنْ أُكَلِّمَ اليوم إِنسِيّاً﴾ أي لن أكلّم أحداً من الناس.
. أُمِرت بالكفّ عن الكلام ليكفيها ولدها ذلك فتكون آية باهرة ﴿فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ﴾ أي أتتْ قومها بعد أن طهرت من النفاس تحمل ولدها عيسى على يديها ﴿قَالُواْ يامريم لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً﴾ أي فلما وابنها أعظموا أمرها واستنكروه وقالوا لها: لقد جئتِ شيئاً عظيماً مُنكراً ﴿ياأخت هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امرأ سَوْءٍ﴾ أي يا شبيهة هارون في الصلاح والعبادة ما كان أبوك رجلاً فاجراً ﴿وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً﴾ أي وما كانت أمكِ زانية فكيف صدر هذا منك وأنت من بيت طاهر معرفٍ بالصلاح والعبادة؟ قال قتادة: كان هارون رجلاً صالحاً في بني إسرائيل مشهوراً بالصلاح فشبهوها به، وليس بهارون أخي موسى لأن بينهما ما يزيد على ألف عام وقال السهيلي: هارون رجل من عُباد بني إسرائيل المجتهدين كانت مريم تُشبّه به في اجتهادها وليس بهارون أخي موسى بن عمران فإن بينهما دهراً طويلاً ﴿فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ﴾ أي لم تجبهم وأشارت إلى عيسى ليكلموه ويسألوه ﴿قَالُواْ كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي المهد صَبِيّاً﴾ أي قالوا متعجبين: كيف نكلم طفلاً رضيعاً لا يزال في السرير يغتذي بلبان أمه؟ قال الرازي: روي أنه كان يرضع فلما سمع ذلك ترك الرضاع وأقبل عليهم بوجهه وكلمهم، ثم لم يتكلم حتى بلغ مبلغاً يتكلم فيه الصبيان ﴿قَالَ إِنِّي عَبْدُ الله﴾ أي قال عيسى في كلامه حين كلمهم: أنا عبدٌ لله خلقني بقدرته من دون أب، قدم ذكر العبودية، ليُبطل قول من ادّعى في الربوبية ﴿آتَانِيَ الكتاب وَجَعَلَنِي نَبِيّاً﴾ أي قضى ربي أن يؤتيني الإنجيل ويجعلني نبياً، وإنما جاء بلفظ الماضي لإفادته تحققه فإن ما حكم به الله أزلاً لا بدَّ إلا أن يقع ﴿وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ﴾ أي جعل فيَّ البركة والخير والنفع للعباد حيثما كنت وأينما حللت ﴿وَأَوْصَانِي بالصلاة والزكاة مَا دُمْتُ حَيّاً﴾ أي أوصاني بالمحافظة على الصلاة والزكاة مدة حياتي ﴿وَبَرّاً بِوَالِدَتِي﴾ أي وجعلني باراً بوالدتي محسناً لها ﴿وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً﴾ أي ولم يجعلني متعظماً متكبراً على أحد شقياً في حياتي ﴿والسلام عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً﴾ أي سلام الله عليَّ في يوم ولادتي، وفي يوم مماتي، وفي يوم خروجي حياً من قبري، هذا ما نطق به المسيح عليه السلام وهو طفل رضيع في المهد.
. وهكذا يعلن عيسى عبوديته لله، فليس هو إلهاً، ولا ابن إله، ولا ثالث ثلاثة كما يزعم النصارى، إنما عبدٌ ورسول، يحيا ويموت كسائر البشر، خلقه الله من أم دون أب ليكون آية على قدرة الله الباهرة، ولهذا جاء التعقيب المباشر ﴿ذلك عِيسَى ابن مَرْيَمَ قَوْلَ الحق الذي فِيهِ يَمْتُرُونَ﴾ أي ذلك هو القول الحقُّ في عيسى بن مريم لا ما يصفه النصارى من أنه ابن الله، أو اليهود من أنه ابن زنى ويشكّون في أمره ويمترون ﴿مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ﴾ أي ما ينبغي لله ولا يجوز له أن يتخذ ولداً ﴿سُبْحَانَهُ﴾ أي تنزَّه الله عن الولد والشريك ﴿إِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾ أي إذا أراد شيئاً وحكم به قال له كنْ فكان، ولا يحتاج إلى


الصفحة التالية
Icon