متعنا هؤلاء المشركين وآباءهم من قبلهم بما رزقناهم من حطام الدنيا حتى طالت أعمارهم في رخاء ونعمة وحسبوا أن ذلك يدوم فاغتروا بذلك ﴿أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَآ﴾ أي أفلا ينظرون فيعْتبرون بأننا نأتي أرضهم فننقصها من أطرافها بالفتح على النبي وتسليط المسلمين عليها؟ ﴿أَفَهُمُ الغالبون﴾ استفهام بمعنى التقريع والإنكار أي أفهم الغالبون والحالة هذه أم المغلوبون؟ بل هم المغلوبون الأخسرون الأرذلون ﴿قُلْ إِنَّمَآ أُنذِرُكُم بالوحي﴾ أي قل لهم يا محمد إنما أخوفكم واحذركم بوحيٍ من الله لا من تلقاء نفسي، فأنا مبلّغٌ عن الله ما أنذرتكم به من العذاب والنكال ﴿وَلاَ يَسْمَعُ الصم الدعآء إِذَا مَا يُنذَرُونَ﴾ أي ولكنكم أيها المشركون لشدة جهلكم وعنادكم كالصُمّ الذين لا يسمعون الكلام والإنذار فلا يتعظون ولا ينزجرون ﴿وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ﴾ أي ولئن شيء خفيف مما أُنذروا به من عذاب الله ولو كان يسيراً ﴿لَيَقُولُنَّ ياويلنآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ﴾ أي ليعترفنَّ بجريمتهم ويقولون: يا هلاكنا لقد كنا ظالمين لأنفسنا بتكذيبنا رسل الله ﴿وَنَضَعُ الموازين القسط لِيَوْمِ القيامة﴾ أي ونقيم الموازين العادلة التي توزن بها الأعمال في يوم القيامة ﴿فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً﴾ أي فلا يُنقص محسنٌ من إِحسانه، ولا يُزاد مسيءٌ على إساءته ﴿وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا﴾ أي وإن كان العمل الذي عملته زنة حبةٍ من خردل جئا بها وأحضرناها قال أبو السعود: أي وإن كان في غاية القلة والحقارة، فإِن حبة الخردل مثلٌ في الصغر ﴿وكفى بِنَا حَاسِبِينَ﴾ أي كفى بربك أن يكون محصياً لأعمال العباد مجازياً عليها قال الخازن: والغرضُ منه التحذير فإِن المحاسب إِذا كان في العلم بحيث لا يمكن أن يشتبه عليه شيء، وفي القدرة بحيث لا يعجز عن شيء فحقيق بالعاقل أن يكون على أشدّ الخوف منه ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى وَهَارُونَ الفرقان وَضِيَآءً وَذِكْراً لَّلْمُتَّقِينَ﴾ أي ولقد أعطينا موسى وهارون التوراة الفارقة بين الحق والباطل والهدى والضلال نوراً وضياءً وتذكيراً للمؤمنين المتقين ﴿الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بالغيب﴾ أي هم الذين يخافون الله ولم يروه لأنهم عرفوا بالنظر والاستدلال أن لهم رباً عظيماً قادراً يجازي على الأعمال فهم يخشونه وإِن لم يروه ﴿وَهُمْ مِّنَ الساعة مُشْفِقُونَ﴾ أي وهم من أهوال يوم القيامة وشدائدها خائفون وجلون ﴿وهذا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ﴾ أي وهذا القرآن العظيم كتاب عظيم الشأن فيه ذكرٌ لمن تذكّر، وعظة لمن اتعظ، كثير الخير أنزلناه عليكم بلغتكم ﴿أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ﴾ أي أفأنتم يا معشر العرب منكرون له وهو في غاية الجلاء والظهور؟ قال الكرخي: الاستفهام للتوبيخ والخطابُ لأهل مكة فإِنهم من أهل اللسان يدركون مزايا الكلام ولطائفه، ويفهمون من بلاغة القرآن ما لا يدركه غيرهم مع أن فيه شرفهم وصيتَهم فلو أنكره غيرهم لكان لهم مناصبته وعداؤه.
البَلاَغَة: تضمنت الآيات الكريمة من وجوه البيان والبديع ما يلي:
١ - جناس الاشتقاق ﴿أَرْسَلْنَا.. رَّسُولٍ﴾.
٢ - الاستفهام الذي معناه التعجب والإِنكار ﴿أَوَلَمْ يَرَ الذين كفروا﴾.
٣ - الطباق بين الرتق والفتق في قوله ﴿كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا﴾.
٤ -