فِي غَمْرَةٍ مِّنْ هذا} أي بل قلوب الكفرة المجرمين في غطاءٍ وغفلةٍ وعماية عن هذا القرآن ﴿وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِّن دُونِ ذلك﴾ أي ولهم أعمال سيئة كثيرة غير الكفر والإشراك ﴿هُمْ لَهَا عَامِلُونَ﴾ أي سيعملونها في المستقبل لتحقَّ عليهم الشقاوة فقد جمعوا بين الكفر وسوء الأعمال فحقت عليهم كلمة العذاب ﴿حتى إِذَآ أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بالعذاب﴾ أي حتى إِذا أخذنا أغنياءهم وكبراءهم المتنعمين في هذه الحياة بالعذاب العاجل كالجوع والقتل والأسر ﴿إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ﴾ أي إِذا هم يصيحون ويرفعون أصواتهم بالاستغاثة قال ابن عباس: هو الجوع الذي عذبوا به سبع سنين ﴿لاَ تَجْأَرُواْ اليوم﴾ أي لا تستغيثوا اليوم من العذاب ﴿إِنَّكُمْ مِّنَّا لاَ تُنصَرُونَ﴾ أي لا تمنعون من عذابنا فلا ينفعكم صراخ ولا استغاثة ﴿قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تتلى عَلَيْكُمْ﴾ أي لقد كنتم تسمعون آيات القرآن تقرأ عليكم ﴿فَكُنتُمْ على أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ﴾ أي كنتم تنفرون عن تلك الآيات كما يذهب الناكص على عقبيه بالرجوع إِلى ورائه، وهذا تمثيلٌ لإِعراضهم عن الحق بالراجع إلى الخلف ﴿مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ﴾ أي مستكبرين بسبب القرآن عن الإِيمان قال ابن كثير: الضمير للقرآن كانوا يسمرون ويذكرون القرآن بالهُجْر من الكلام يقولون إِنه سحر، شعر، كهانة إِلى غير ذلك من الأقوال الباطلة وقال ابن الجوزي: الضمير عائد إلى البيت الحرام وهي كناية عن غير مذكور لشهرة الأمر والمعنى: إِنكم تستكبرون وتفتخرون بالبيت والحرم لأمنكم فيه مع خوف سائر الناس في مواطنهم، تقولون: نحن أهل الحرم فلا نخاف أحداً، ونحن أهل بيت الله وولاته، هذا مذهب ابن عباس وغيره ﴿سَامِراً تَهْجُرُونَ﴾ أي متحدثين ليلاً تسمرون تقولون في سمركم الهجر وهو القول الفاحش من الطعن في القرآن، وسبّ النبي عليه السلام ﴿أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ القول﴾ أي أفلم يتدبروا هذا القرآن العظيم ليعرفوا بما فيه من إِعجاز النظم أنه كلام الله فيصدقوا به؟ ﴿أَمْ جَآءَهُمْ مَّا لَمْ يَأْتِ آبَآءَهُمُ الأولين﴾ أي أم جاءهم من الله بشيء مبتدع لم يأت مثله في آبائهم السابقين؟ قال أبو السعود: يعني أن مجيء الكتب من جهته تعالى إلى الرسل سنة قديمة لا ييكاد يتسنى إنكاره، وأن مجيء القرآن على طريقته فمن أين ينكرونه؟ ﴿أَمْ لَمْ يَعْرِفُواْ رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ﴾ توبيخ آخر لهم أي أم لم يعرفوا محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ونسبه وصدقه وأمانته ورابعاً اتهامهم له بالجنون وقد علموا أنه عليه السلام أرجحهم عقلاً وأثقبهم ذهناً ولهذا قال بعده ﴿أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ﴾ أي أم يقولون إِن محمداً مجنون، وهذا توبيخ آخر وتعجيبٌ من تفننهم في العناد، وتلونهم في الجحود ﴿بَلْ جَآءَهُمْ بالحق﴾ ﴿بَلْ﴾ للإضراب أي ليس الأمر كما زعموا بل جاءهم محمد بالحقِّ الساطع الذي لا مدخل فيه للباطل بوجه من الوجوه، وبالقرآن المشتمل على التوحيد وشرائع الإِسلام ﴿وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ﴾ أي ومع وضوح الدعوة فإِنَّ أكثر المشركين يكرهون الحقّ لما في قلوبهم من الزيغ والانحراف ﴿وَلَوِ اتبع الحق أَهْوَآءَهُمْ﴾ أي لو كان ما كرهوه من الحق - الذي هو التوحيد والعدل -


الصفحة التالية
Icon