ابدءوا بإِلقاء ما تريدون فأنا لا أخشاكم، قاله ثقةً بنصرة الله له وتوسلاً لإِظهار الحقِّ ﴿فَأَلْقَوْاْ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُواْ بِعِزَّةِ فِرْعَونَ إِنَّا لَنَحْنُ الغالبون﴾ أي فألقوا ما بأيديهم من الحبال والعصي وقالوا عند الإِلقاء نقسم بعظمة فرعون وسلطانه إنّا الغالبون لموسى ﴿فألقى موسى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ﴾ أي فألقى موسى العصى فانقلبت حية عظيمة فإِذا هي تبتلع وتزدرد الحبال والعصيّ التي اختلقوها باسم السحر حيث خيلوها للناس حياتٍ تسعى، وسمّى تلك الأشياء إفكاً مبالغةً ﴿فَأُلْقِيَ السحرة سَاجِدِينَ﴾ أي سجدوا للهِ رب العالمين، بعدما شاهدوا البرهان الساطع، والمعجزة الباهرة ﴿قَالُواْ آمَنَّا بِرَبِّ العالمين رَبِّ موسى وَهَارُونَ﴾ أي وقالوا عند سجودهم آمنا بالله العزيز الكبير الذي يدعونا إليه موسى وهارون قال الطبري: لما تبيّن للسحرة أن الذي جاءهم موسى حقٌّ لا سحر، وأنه مما لا يقدر عليه غيرُ الله الذي فطر السماوات والأرض، خرّوا لوجوههم سجداً لله مذعنين له بالطاعة قائلين: آمنا برب العالمين الذي دعانا موسى لعبادته، دون فرعون وملئه ﴿قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ﴾ أي قال فرعون للسحرة: آمنتم لموسى قبل أن تستأذنوني؟ ﴿إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الذي عَلَّمَكُمُ السحر﴾ أي إنه رئيسكم الذي تعلمتم منه السحر وتواطأتم معه ليظهر أمره، أراد فرعون بهذا الكلام التلبيس على قومه لئلا يعتقدوا أن السحرة آمنوا عن بصيرة وظهور حق قال ابن كثير: وهذه مكابرة يعلم كل أحدٍ بطلانها، فإِنهم لم يجتمعوا بموسى قبل ذلك اليوم، فكيف يكون كبيرهم الذي أفادهم صناعة السحر؟ هذا لا يقوله عاقل، ثم توعَّدهم بقوله ﴿فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ أي سوف تعلمون عند عقابي وبال ما صنعتم من الإِيمان به ﴿لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ﴾ أي لأقطعنَّ يد كل واحد منكم اليمنى ورجله اليسرى ﴿وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ أي ولأصلبنَّ كل واحد منكم على جذع شجرة واتركه حتى الموت ﴿قَالُواْ لاَ ضَيْرَ إِنَّآ إلى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ﴾ أي لا ضرر علينا في وقوع ما أوعدتنا به، ولا نبالي به لأننا نرجع إلى ربنا مؤملين غفرانه ﴿إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَآ﴾ أي إنا نرجو أن يغفر لنا الله ذنوبنا التي سلفت منا قبل إيماننا به فلا يعاقبنا بها ﴿أَن كُنَّآ أَوَّلَ المؤمنين﴾ أي بسبب أن بادرنا قومنا إلى الإِيمان وكنا أول من آمن بموسى.
البَلاَغَة: تضمنت الآيات وجوهاً من البلاغة والبديع نوجزها فيما يلي: ١ - الكناية اللطيفة ﴿فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ﴾ كنّى به عن الذل والهوان الذي يلحقهم بعد العز والكبرياء. ٢ - الوعيد والتهديد ﴿فَسَيَأْتِيهِمْ أَنبَاءُ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾. ٣ - التوبيخ ﴿أَوَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى الأرض﴾ الاستفهام للتوبيخ على تركهم النظر بعين الاعتبار. ٤ - المقابلة اللطيفة بين ﴿وَيَضِيقُ صَدْرِي﴾ ﴿وَلاَ يَنطَلِقُ لِسَانِي﴾. ٥ - جناس الاشتقاق ﴿رَسُولُ.. أَرْسِلْ﴾. ٦ - الجناس الناقص ﴿وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ﴾ فقد اتفقت الحروف بين (فعلتَ وبين فعْلة) واختلف الشكل فأصبح جناساً غير تام. ٧ -