أولاً لئلا يظن أحدٌ به المحاباه واللطف معهم فإِذا تشدَّد على نفسه وعلى أقاربه كان قوله أنفع، وكلامه أنجع ﴿واخفض جَنَاحَكَ لِمَنِ اتبعك مِنَ المؤمنين﴾ أي تواضعْ وأَلِنْ جانبك لأتباعك المؤمنين ﴿فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي برياء مِّمَّا تَعْمَلُونَ﴾ أي فإِن لم يطيعوك وخالفوا أمرك فتبرأ منهم ومن أعمالهم قال أبو حيان: لما كان الإِنذار يترتب عليه الطاعة أو العصيان جاء التقسيم عليهما فكأن المعنى: من اتبعك مؤمناً فتواضع له، ومن عصاك فتبرأ منهم ومن أعمالهم ﴿وَتَوكَّلْ عَلَى العزيز الرحيم﴾ أي فوّض جميع أمورك إلأى الله العزيز، الذي يقهر أعداءك بعزته، وينصرك عليهم برحمته ﴿الذي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ﴾ أي يراك حين تكون وحدك تقوم من فراشك أو مجلسك وقال ابن عباس: حين تقوم إلى الصلاة ﴿وَتَقَلُّبَكَ فِي الساجدين﴾ أي ويرى تقلُّبك مع المصلين في الركوع والسجود والقيام، والمعنى يراك وحدك ويراك في الجماعة ﴿إِنَّهُ هُوَ السميع العليم﴾ أي إنه تعالى السميع لما تقوله، العليم بما تخفيه ﴿هَلْ أُنَبِّئُكُمْ على مَن تَنَزَّلُ الشياطين﴾ ؟ أي قل يا محم لكفار مكة: هل أخبركم على من تتنزَّل الشياطين؟ وهذا ردٌّ عليهم حين قالوا إنما يأتيه بالقرآن الشياطين ﴿تَنَزَّلُ على كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ﴾ أي تتنزَّل على كل كذَّابٍ فاجر، مبالغٍ في الكذب والعدوان، لا علىسيّد ولد عدنان ﴿يُلْقُونَ السمع وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ﴾ أي تُلقي الشياطين ما استرقوه من السمع إلى أوليائهم الكهنة، وأكثرهم يكذبون فيما يوحون به إليهم وفي الحديث
«تلك الكلمةُ من الحقِّ يخْطفها الجنيُّ فيقرقرها - أي يلقيها - في أُذن وليّه كقرقرة الدجاج، فيخلطون معها أكثر من مائة كذبه» ﴿يُلْقُونَ السمع﴾ هم الشياطين كانواقبل أن يُحجبوا بالرجم يسمَّعون إلى الملأ الأعلى، فيختطفون بعض ما يتكلمون به مما اطلعوا عليه من الغيوب، ثم يوحون به إلى أوليائهم من الكهنة والمتنبئة «وأكثرهم كاذبون فيما يوحون به إليهم، لأنهم يُسمعونهم ما لم يسمعوا، ثم ردَّ تعالى على من زعم أن محمداً شاعر فقال ﴿والشعرآء يَتَّبِعُهُمُ الغاوون﴾ أي يتبعهم الضالون لا أهل البصيرة والرشاد ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ﴾ أي ألم تر أيها السامع العاقل أنهم يسلكون في المديح والهجاء كل طريق، يمدحون الشيء بعد أن ذمّوه، ويعظّمون الشخص بعد أن احتقروه قال الطبري: وهذا مثلٌ ضربه الله لهم في افتتانهم في الوجوه التي يُفتنون فيها بغير حق، فيمدحون بالباطل قوماً ويهجون آخرين ﴿وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ﴾ أي يكذبون فينسبون لأنفسهم ما لم يعملوه قال أبو حيان: أخبر تعالى عن الشعراء بالأحوال التي تخالف حال النبوة، إذْ أمرهُم كما ذُكر من اتّباع الغُواة لهم، وسلوكهم أفانين الكلام من مدح الشيء وذمّه، ونسبة ما لا يقع منهم إليهم، وهذا مخالف لحال النبوة فإِنها طريقة واحدة لا يتبها إلا الراشدون، ثم استثنى تعالى فقال ﴿إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات﴾ أي صدقوا في إيمانهم وأخلصوا في أعمالهم ﴿وَذَكَرُواْ الله كَثِيراً﴾ أي لم يشغلهم الشعرُ عن ذكر الله ولم يجعلوه همَّهم وديدنهم ﴿وانتصروا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ﴾ أي هجوا المشركين دفاعاً عن