حيان: وبدؤه بالنداء تبشير لموسى وتأنيس له ومقدمة لمناجاته، وجدير أن يبارك من في النار ومن حواليها إذ قد حدث أمرٌ عظيم وهو تكليم الله لموسى وتنبيئه ﴿وَسُبْحَانَ الله رَبِّ العالمين﴾ أي تقدَّس وتنزَّه ربُّ العزة، العليُّ الشأن، الذي لا يشبهه شيء من مخلوقاته لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله ﴿ياموسى إِنَّهُ أَنَا الله العزيز الحكيم﴾ أي أنا الله القويُّ القادر، العزيز الذي لا يُقهر، الحكيم الذي يفعل كل شيء بحكمةٍ وتدبير ﴿وَأَلْقِ عَصَاكَ﴾ عطفٌ على السابق أي ونودي أن ألق عصاك لترى معجزتك بنفسك فتأنس بها ﴿فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ﴾ أي فلما رآها تتحرك حركة سريعة كأنها ثعبان خفيف سريع الجري ﴿ولى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ﴾ أي ولّى الأدبار منهزماً ولم يرجع لما دهاه من الخوف والفزع قال مجاهد: «لم يُعقّب» لم يرجع، وقال قتادة: لم يلتفت، لحقه ما لحق طبع البشر إذ رأى أمراً هائلاً جداً وهو انقلاب العصا حيةً تسعى ولهذا ناداه ربه ﴿ياموسى لاَ تَخَفْ﴾ أي أقبل ولا تخف لأنك بحضرتي ومن كان فيها فهو آمنٌ ﴿إِنِّي لاَ يَخَافُ لَدَيَّ المرسلون﴾ أي فأنت رسولي ورسلي الذي اصطفيتهم للنبوة لا يخافون غيري قال ابن الجوزي: نبَّهه على أن من آمنَه الله بالنبوة من عذابه لا ينبغي أن يخاف من حيَّة ﴿إِلاَّ مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سواء﴾ الاستثناء منقطع أي لكنْ من ظلم من سائر الناس لا من المرسلين فإِنه يخاف إلا إذا تاب وبدَّل عمله السيء إلى العمل الحسن ﴿فَإِنِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ أي عظيم المغفرة واسع الرحمة قال ابن كثير: وفيه بشارة عظيمةٌ للبشر وذلك أن من كان على عمل سيء، ثم أقلع ورجع وتاب وأناب فإِن الله يتوب عليه كقوله
﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً ثُمَّ اهتدى﴾ [طه: ٨٢] ﴿وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سواء﴾ هذه معجزة أُخرى لموسى تدل على باهر قدرة الله والمعنى أدخل يا موسى يدك في فتحة ثوبك ثم أخرجها تخرج مضيئة ساطعة بيضاء تتلألأ كالبرق الخاطف دون مرضٍ أو برص ﴿فِي تِسْعِ آيَاتٍ إلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ﴾ أي هاتان المعجزتان «العصا واليد» ضمن تسعِ معجزاتٍ أيدتك بها وجعلتُها برهاناً على صدقك لتذهب بها إلى فرعون وقومه ﴿إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ﴾ أي خارجين عن طاعتنا، ممعنين في الكفر والضلال ﴿فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً﴾ أي فلما رأوا تلك المعجزات الباهرة، واضحةً بينةً ظاهرة ﴿قَالُواْ هذا سِحْرٌ مُّبِينٌ﴾ أي أنكروها وزعموا أنها سحرٌ واضح ﴿وَجَحَدُواْ بِهَا﴾ أي كفروا وكذبوا بتلك الخوارق ﴿واستيقنتهآ أَنفُسُهُمْ﴾ أي وقد أيقنوا بقلوبهم أنها من عند الله وليست من قبيل السحر ﴿ظُلْماً وَعُلُوّاً﴾ أي جحدوا بها ظلم ا ً من أنفسهم، واستكباراً عن اتباع الحق، وأيُّ ظلمٍ أفحش ممن يعتقد ويستيقن أنها آيات بينة واضحة جاءت من عند الله، ثم يكابر بتسميتها سحراً؟ ولهذا قال ﴿فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المفسدين﴾ أي انظر أيها السامع وتدبر بعين الفكر والبصيرة ماذا كان مآلُ أمر الطاغين، من الإِغراق في الدنيا، والإِحراق في الآخرة؟ قال ابن كثير: وفحوى الخطاب كأنه يقول: احذروا أيها المكذبون لمحمد، الجاحدون لما جاء به من ربه، أن يصيبكم مثلُ ما أصابهم بطريق الأولى والأحرى، فإِن محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أشرفُ وأعظمُ من موسى، وبرهانُه


الصفحة التالية
Icon